في ذكرى أحداث حماة!

اكرم البني
اكرم البني

ربما يسأل سائل عن الحاجة للتذكير بأحداث مدينة حماة التي جرت قبل أربعين عاماً والتي تبدو على بشاعتها ووحشيتها أشبه بلعب أطفال مقارنة بما شهدناه خلال السنوات المنصرمة؟ والجواب، من جهة، كي لا ننسى تلك المجزرة الرهيبة التي نفذت بدم بارد في مثل هذه الأيام من شهر شباط عام / 1982 / وذهب ضحيتها أكثر من عشرين ألف قتيل ومثلهم غُيّبوا في معتقلات النظام ولم يعرف مصيرهم أبداً، عدا عن إحراق أحياء بكاملها وتدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها. ومن جهة أخرى، كي نستخلص بعض الحقائق التي تدل على أن هذا المطر من ذاك الغيم، وأن الأسباب التي شجعت السلطة السورية على استباحة مدينة، هي عينها التي شجعتها على استباحة وطن.

أولاً، وحدة النهج والبنية التكوينية للطغمة الحاكمة وإن اختلف أشخاصها، تلك التي نفذت مجزرة حماة، أو التي استباحت المجتمع، تدميراً وقتلاً وتنكيلاً بعد انطلاق ثورة السوريين السلمية، هي طغمة لا يهمها سوى استمرار سلطتها وامتيازاتها وفسادها، تستهتر بحياة الناس وحقوقهم وممتلكاتهم، وتستمد حضورها وقوتها من أجهزة أمنية وعسكرية متنوعة دأبت على تطويرها وتوسيعها لتشكل مدماكاً راسخاً يصعب زعزعته وقادرا على سحق كل من يقف في طريقه، وله الحق في إدارة كل شيء والتدخل في مختلف تفاصيل الحياة، مدعوماً بشعارات قومية ووطنية ديماغوجية، وأيضاً بلوبي فساد منتشر في مختلف الدوائر والمؤسسات، ويتشبث بمصالح وامتيازات لا يريد التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان.

هي طغمة تزدري السياسة وتصر على إنكار الأسباب البنيوية السياسية والاقتصادية لأزمات البلاد، بتحميلها لقوى التآمر الخارجي متوسلة كي تحافظ على سطوتها، قلب الحقائق والتعبئة الطائفية المتخلفة وإثارة الفتن والصراعات الأهلية، والعزف على وتر التحذير والتهويل من خطورة تغيير الأوضاع على أنه الخيار الأسوأ أمام احتمال حضور تيار سلفي أو إسلامي متشدد يتحين الفرصة للانقضاض على المجتمع!

ومثلما نجحت السلطة بقمعها الشديد في تصفية القوى المناهضة لها في مدينة حماة، وإعادة المجتمع الى أجواء الخوف والرعب، ربطاً بدعم محدود من حليفيها إيران الخميني والاتحاد السوفياتي وقتئذٍ، فقد تمكنت عبر الافراط في العنف خلال السنوات المنصرمة من إخماد نار الحراك الشعبي، مع إفراط أيضاً في الاعتماد على الحليفين عينهما، مما يؤكد أن تلك الطغمة مستعدة للحفاظ على سلطتها، الذهاب إلى آخر الشوط في استجرار الأجنبي، وتالياً منح كل أشرار الأرض، الفرصة ليعيثوا قتلاً وتدميراً باجتماع السوريين، من دون أن تكترث بآلام الناس وما يكابدونه، أو بتهتك وانهيار وطن طالما تغنت باستقلاله وتعدديته وتعايش مكوناته.

ثانياً، تكرار الدور الذي لعبه، بنيوياً، الإسلام السياسي في تمكين النظام، عبر توفير الفرصة لتحويل الصراع السياسي المشروع ضده الى صراع طائفي، فإذا كان النظام قد سوّغ مجزرة حماة على أنها رد على خطة تخريبية لعب الاخوان المسلمون وطليعتهم المقاتلة دوراً رئيساً في تنفيذها، فالتاريخ يعيد نفسه من خلال ثورة السوريين إذ تمكن الإسلام السياسي، بصوره وأسمائه المتعددة، بدءاً من جماعة الاخوان المسلمين انتهاءً بالفصائل العسكرية التي حملت أسماء دينية ومشاريع لفرض الخلافة، مروراً بتنظيمي القاعدة وداعش، تمكن من اختراق صفوف السوريين والتسلق على تضحياتهم، وخاصة تحويل النضال السياسي السلمي إلى شكل من أشكال الإرهاب والصراع العسكري.

لقد ثبت لكل ذي عقل، منذ أحداث حماة إلى اليوم، أن الإسلام السياسي لا وطن له ولا أمان، وان مختلف جماعاته تستسهل تطبيق برنامجها الديني وفرض نمط حياتها في أماكن سيطرتها من دون اعتبار لتنوع المجتمع وتعدديته، بما في ذلك ممارسة قمع وتمييز وفساد يقارب ما كابده الناس من السلطة السورية، مؤكدة مرة تلو مرة عجزها عن التحرر من فكرة الدولة الإسلامية ومن الأساليب الإستئثارية والتسلطية لفرض معتقداتها وآرائها على أنها الحقيقة المطلقة.

ثالثاً، لولا مرور أحداث حماة بوحشيتها وفظاعتها من دون مساءلة او عقاب ما كانت السلطة عينها لتجرؤ على خوض غمار فتك وتنكيل أشد بؤساً ورعباً خلال السنوات المنصرمة، هذه الحقيقة تكشف تكرار تواطؤ المجتمع الدولي الذي صمت أو غض الطرف عن مجزرة حماة وترك النظام السوري يفتك بالمدنيين بكل قسوة وعنف، والذي لاحقاً لم يبدِ موقفاً حازماً ضد ما طبق من قمع وتنكيل بحق السوريين، الأمر الذي ترك الباب مشرعاً أمام السلطة للتوغل في العنف أكثر فأكثر وشجعها على استباحة كل شيء وممارسة أشنع وسائل القهر وأكثرها ضراوة وهي مطمئنة إلى أن ردود الأفعال لن تصل إلى المواجهة والردع، ولن تتجاوز حدود الإدانات والعقوبات الديبلوماسية والاقتصادية، كما حصل مع تكرار استخدام السلاح الكيماوي!

والحال، لم يشهد التاريخ السوري، منذ أحداث حماة إلى يومنا، مثل هذا الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح التي تزهق وبدماء السوريين وما يحل بهم من دمار وخراب، والأنكى حين يتم ذلك في ظل ثورة الاتصالات والمشاهد المروعة التي تصل إلى كل بيت وتكشف للجميع محنة إنسانية يعجز اللسان عن عرضها ووصفها.

في مثل هذه الأيام قبل أربعين عاماً، كنا ثلة من الشباب نتابع من أقرب مكان وصلنا اليه، ما يجري في مدينة حماة، كانت تأخذنا الدهشة وعاجزين عن تصديق ما يرويه لنا ناجون تمكنوا من الفرار من تلك المذبحة. كانت الأمور تبدو لنا أشبه بصور متخيلة من فيلم سينمائي، عن مشاهد لعشرات الشبان والفتيان ووجوههم الى الحائط وهم يقتلون بدم بارد، عن استخدام الكيروزين لحرق أحياء بكاملها وبمن فيها، عن صور مؤلمة لاغتصاب النساء والفتيات وتقطيع أوصالهن، كنا ننظر بعيون بعضنا البعض باستغراب، وكأننا نتساءل ضمناً هل حقاً هذا الذي جرى؟ وهل يعقل أن يصل إنسان إلى هذا المستوى من الفتك والتنكيل بحق شريكه في الحياة والوطن؟ ما كنا نتوقع أن تصل الهمجية السلطوية إلى هذا الحد المفزع والبغيض، لكن بعد انطلاق ثورة السوريين، بدا الكثيرون مثلنا غير مصدقين لشدة العنف السلطوي واستباحة القتل والاعتقال بحق المتظاهرين السلميين، ربما لأنهم لم يدركوا ما أرسته أحداث حماة من حقائق، وتالياً لم يدركوا ماهية النظام الحاكم في سوريا، وأي نوع من المجرمين هؤلاء الذين يفرضون، بقوة العنف والاستباحة والارهاب، سلطتهم وامتيازاتهم وفسادهم على المجتمع.

شارك المقال