الاستباحة المتاحة… والفرج المؤجل!

رامي الريّس

لم يكن الحكم العسكري في أي دولة من الدول هو الخيار الأمثل لأن جنوحه الطبيعي نحو الديكتاتوريّة هو بمثابة مسار محتوم، لا بل عدم إتجاهه نحو هذا المسار يناقض دروس التاريخ حيث تحكّم الطغاة من القادة العسكريين بمصائر الشعوب وبعضهم قادهم إلى الهلاك. العسكر لا يحتملون الرأي الآخر وهم غالباً ما يدفعون في إتجاه إنشاء طبقة عليا فوق الطبقات الإجتماعيّة تضم كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين وكأنهم صفوة القوم أمام الشعب الكادح.

طبعاً، هذا لا يعني أن الديكتاتوريّات لا تتمظهر إلا عند العسكر في الحكم، فهناك أيضاً العشرات من الأمثلة التاريخيّة حيث أطبق عدد من القادة المدنيين على مجتمعاتهم وصادروا حريّاتهم وساروا بهم أيضاً نحو التهلكة السياسيّة والشعبيّة، والتاريخ زاخر بالأمثلة كذلك.

مناسبة هذا الكلام تتصل بالمواقف العدائيّة المستجدة حيال الجيش اللبناني الذي أثبت خلال السنوات المنصرمة قدرته العالية على التكيّف مع الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد والتي زادت تعقيداً بفعل الانهيار المالي الذي أسقط القدرة الشرائيّة للعملة الوطنيّة وتراجع قيمة رواتب العسكريين إلى مستوى يلامس الإذلال والإهانة ويضرب المعنويات التي تشكل عنصراً أساسيّاً من أي عقيدة قتاليّة عند الجيوش.

صحيحٌ أن الجيش اللبناني لا يمكنه الدخول في حسم النزاعات الداخليّة لأن ذلك سينعكس على واقعه وتركيبته وسيؤجج الصراع الداخلي ويدفعه نحو إتجاهات خطيرة؛ إلا أن ذلك لا يعني إسقاط الصفة المرجعيّة والرسميّة والحصريّة التي يفترض أن تتمتع بها المؤسسة العسكريّة إذ يكفي ما حصل ويحصل من مصادرة لدورها في قرار الحرب والسلم وفي احتكار السرح ووظيفة الدفاع عن أراضي الوطن.

ليس هناك من مصلحة لأحد في التشكيك بدور الجيش في حماية السلم الأهلي (وليس تولي الحكم طبعاً وهذا الأمر ليس مطروحاً ولا يفترض أن يكون مطروحاً في لبنان)، بما في ذلك القوى التي تمتلك فائضاً من القوّة وتفاخر بها ليل نهار وتعكس ذلك في التصريحات المتعالية لقادتها. أليست تلك القوى ذاتها هي التي تطلب من الأجهزة الرسميّة التدخل في مناطق نفوذها في حالات يستعصي عليها علاجها محليّاً؟

لقد حافظ الجيش على تماسكه ووحدته على الرغم من الإنقسامات السياسيّة العميقة في البلاد التي تفرض نفسها على كل مسارات الحياة الوطنيّة والسياسيّة، وعلى الرغم من تدهور قيمة العملة اللبنانيّة وتراجعها الدراماتيكي غير المسبوق، وما سُجل ويُسجّل من حالات تسرّب لا يرقى إلى حجم المعاناة ولو أنه يدفع إلى القلق.

إن إستمرار الإحتضان الوطني والسياسي للمؤسسة العسكريّة في ظل الظروف المحليّة المعقدة هو أقل الواجب طالما أن الجيش يلتزم بتوجيهات السلطة السياسيّة ويقوم بدوره كاملاً في حماية السلم الأهلي والتنسيق مع قوات “اليونيفيل” في ما يخص حماية الحدود الجنوبيّة وتنفيذ القرار 1701. وإذا كانت العلاقات الخارجيّة التي تنسجها القيادة العسكريّة تصب في تعزيز قدرات الجيش وتطوير إمكاناته من دون أي إشتراطاتٍ سياسيّة، فأين تكمن المشكلة عند البعض؟

المشكلة، ببساطة، أن هذا البعض لا يريد الدولة بكل هيبتها ومؤسساتها ومرافقها. وطالما كانت هذه الاستباحة متاحة، طالما تواصلت هذه السياسة، بانتظار فرج ما لا يبدو أن موعد حلوله سيكون قريباً!

شارك المقال