الحكومة تَبِيض “موازنة جهنم” بمؤازرة “حزب الاحتلال”

عبدالوهاب بدرخان

فليقلْ الأمين العام لـ”حزب إيران” ما يشاء، والعتب على مَن يصدّقه، أو لا يزال يصدّقه، خصوصاً عندما يتحدّث عن السيادة، وهو ممثل الاحتلال الإيراني والناطق باسمه. يتساوى في ذلك أيضاً عندما يتأسف على انكفاء سعد الحريري، أو ينفي وجود مشكلة لـ “حزبه” في أي حوار بين لبنان ودول الخليج. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يُصدَّق هو تبرّمه المتكرّر من العلاقة بين الجيش والولايات المتحدة، ولن يطمئن حسن نصرالله إلا يوم يصبح الجيش تحت إمرته، وهو ما لن يحصل اطلاقاً.

تكمن مفارقة أولى في أن مَن يمثّل السيادة هو الجيش اللبناني، وليس ميليشيا “حزب إيران/ حزب الله”، وإذ بات نصرالله يعتبر العلاقة الأميركية مع الجيش “تدخّلاً” في الشأن اللبناني، فإنه يستبعد أي تدخّل إيراني متناسياً الفيديو الذي يقول فيه إنه يحرص على رضا المرشد خامنئي في أي قرار يتخذه. أما المفارقة الأخرى فهي تأكيد الجيش، بمناسبة عودة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، أنه يأخذ بما تقرّره السلطة السياسية، وبما أن “الحزب” يسيطر على هذه السلطة وقرارها فإن عدم سيطرته على الجيش مصدر انزعاج دائم لإيران التي اخترقت جيشي سوريا والعراق وفكّكت جيش اليمن. وأما المفارقة الثالثة فهي أن الحدود المرسّمة مع إسرائيل ستكون بإشراف الجيش وقد تكون الوحيدة التي تعتبر حدود الدولة اللبنانية، بعدما أصبحت الحدود شرقاً مرتعاً لشبّيحة النظام الاسدي ولـ “حزب إيران” وتجارته وممنوعاته المهرّبة وسلاحه غير الشرعي.

بلى، لدى “حزب إيران” مشكلة في أي حوار لبناني – خليجي. أولاً، لأنه بذل جهداً لهندسة المقاطعة بين الطرفَين، بدءاً بهراءات جبران باسيل في المؤتمرات العربية، مرفقةً بإسفافات نصرالله في خطبه، واستطراداً بتوظيف غباء جورج قرداحي. وثانياً، لأنه دفع بسعيه الى إحداث القطيعة فيما كانت المحاولات الأميركية والفرنسية في ذروتها لإقناع السعودية ودول الخليج بتوفير ضمانات مالية لتفادي الانهيار الاقتصادي في لبنان. وثالثاً، لأنه تعمد توقيت إبراز وجود “المعارضات” الخليجية على الأراضي اللبنانية، في كنف إيران و”حزبها”، بالتزامن مع آخر مخاتلات نصرالله، في مقابلته مع قناة “العالم” الإيرانية، حين طلب أن “تكفّ” دول الخليج عن التدخّل في الشؤون الداخلية للبنان قبل أن “تطلب من لبنان – أو أي حزب – عدم التدخّل في شؤونها الداخلية”. طبعاً، كان هذا مجرّد لغو كلامي لأن نصرالله يعرف تماماً أن دول الخليج تشير الى تدخّله، وهو زعيم ميليشيا يُفترض أنها “لبنانية”، في اليمن والعراق وسوريا. وفي أي حال، القطيعة مع العرب سياسة تطبّقها إيران على مختلف الدول التي خرّبتها، وتحاول الآن إعادة العراق تحت قبضتها بعدما نجحت حكومة مصطفى الكاظمي في الانفتاح عربياً.

في هذا السياق يصف نصرالله الاقتراحات الكويتية بأنها “إملاءات”، مع علمه بأن ثمة توافقاً خليجياً – عربياً – دولياً عليها، وأن ما ورد فيها مستمدّ من قرارات مجلس الأمن والمؤتمرات العربية. ثم أن كل ما تقترحه الورقة الكويتية هو مطالب محلية لبنانية مزمنة، وسواء تهربت الدولة من هذه الاستحقاقات عجزاً وتخاذلاً أو عجّزها “حزب إيران” الحاكم عن تنفيذها فإن النتيجة واحدة، وهي أن الاحتلال الإيراني يدفع بلبنان تلقائياً الى هامش المجتمع الدولي وليس في إمكانه أن يشكّل بديلاً من دول الخليج أو من المؤسسات الدولية التي يطلب لبنان أن تساعده، مع أن وضعه كبلد محتَلّ لن يأتيه بالمساعدة التي يتوخّاها الشعب. وهنا يتبيّن الأهم في الورقة الكويتية، فهي لم تعرض فقط الخطوط أو الشروط العامة لاستعادة العلاقة بين لبنان ودول الخليج، بل خصوصاً لاستعادة لبنان عافيته داخلياً.

لكن، مَن يريد حقاً أن يتعافى لبنان، أهو رئيس الجمهورية، أم رئيس الحكومة أم مجلس النواب أم منظومة السلطة كلّها؟ عملياً، يختصر حسن نصرالله بشخصه هذه المنظومة ويظهر على الشاشات ممثّلاً أدوار “التمسكن” بأنه – يا للعجب! – عاجزٌ عن “قبع” قاضي تحقيق لأنه اقترب من كشف دورٍ لـ “الحزب” في تخزين نيترات الأمونيوم والتسبّب بانفجار مرفأ بيروت. الأكيد أن آخر ما يفكّر فيه، أو آخر ما تفكّر فيه منظومته، هو ذاك التعافي، فالأزمة أفادتها في إغراق اللبنانيين وانتفاضاتهم في دوامة الفقر والعوز والمقوّمات الأساسية للمعيشة. لذا عاد الثنائي الشيعي الى مجلس الوزراء، بعد قطيعة تعطيلية بلا أي معنى، ليشهد على ولادة موازنة بلا خطة للتعافي، فغدت فعلياً “موازنة جهنم”، وكأنها مستوحاة من “كوميديا دانتي الإلهية” لا من القواعد المتّبعة لدى صندوق النقد الدولي، ولا من تجارب الدول التي تعرّضت لأزمات مماثلة.

الواقع أن لا مثيل لأزمة لبنان، ففي البلدان الأخرى (اليونان، البرتغال، كوريا الجنوبية، لاتفيا…) كانت هناك دولة تتحمّل المسؤولية وتبحث عن أفضل السبل لتخفيف آلام التعافي على شعبها، ولم تكن بينها دولة واحدة نهبت أموال مواطنيها المودعين أو دعتهم الى نسيان جنى أعمارهم. أما في حال لبنان فلم ينسَ أحد كيف تباهى زعيم “حزب إيران/ حزب الله” أمام اللبنانيين، وحتى أمام جمهوره، بأن “حزبه” ومحازبيه غير قلقين من انهيار العملة الوطنية لأن أموالهم مؤمّنة. ولن ينسى أحد أن رئيس الحكومة دعا مواطنيه الى “أن نتحمّل بعضنا” وهو يعلم أن لا تكافؤ في كلامه، وأن صندوق النقد يسأله عن خطّته وعن الجانب الاجتماعي فيها، وأن مشروع البطاقة التموينية أو التمويلية لم يبصر النور بعد حتى مع اقتراب الانتخابات ورغبة حيتان المال والسياسة في توظيفها لـ “شراء” أصوات الناخبين.

شارك المقال