يوميات في الكهف اللبناني

محمد علي فرحات

1- في الكهف

كم أن التراب نادر في هذه البقايا، حيث زنجار المعادن والاسمنت المطحون وغبار ما لا أعرف.

فكيف يكون نبات في حديقة مسمومة؟

ولكن، بقيت لي شاشة الموبايل، أطالعها وأشاهد، بلا تراب، خصباً يطلع عشباً وزهراً، وأتابع البطلة والبطل ومعهما أغني.

الفرح على الشاشة، لأنني أعيش، في كهف لبنان.

2- أناشيد وافدة

في لبنان مقاومة تشبه نفسها ولا تشبه لبنانيين كثيرين. تقول: هذه مشكلتكم، ويقولون: هذه مشكلتها.

قد تعزو المقاومة عزلتها الى أسباب أمنية ومن باب المحافظة على الذات. لكن المشكلة تكمن في هذه الذات نفسها التي لا تشبه الثقافة اليومية لكثيرين من اللبنانيين بمن فيهم أهل بيئة المقاومة نفسها. هنا في الأرض التي تم تحريرها ويتم الاعلان يومياً عن الجهود للمحافظة عليها. في هذه الأرض بالذات لا تعلو أغنيات الفلاحين ومواويلهم وايقاعات الدبكة التي ورثوها عن الأجداد، وانما تعلو لغة بعيدة آتية من العراق وايران. وتطغى ايقاعات هذه اللغة الوافدة على أنفاس السكان المحليين وتكاد تخنقهم حين تنسب الى نفسها الكلام باسمهم. ولا بد من الملاحظة أن الغناء ممنوع ولذلك يسمونه نشيداً.

مشكلة المقاومة في لبنان هي ثقافتها الوافدة التي تبدو غريبة على اللبنانيين في مختلف أماكنهم وأديانهم وطوائفهم. هي مشكلتها التي لا تعيها جيداً، وربما لا تعيها أساساً ولا تريد.

3- لوليتا هناك

كان فلاديمير نوبوكوف في التاسعة عشرة حين اندلعت الثورة البلشفية في بلده روسيا، وفي ذلك الوقت لم يسمح لنفسه بالانزلاق الى أصوات الرصاص ومعانيها المتعجلة، إنما واصل كتابة قصائده الصوفية وهو يرى الثوار المحاربين من النافذة.

قالت آذر نفيسي لطالباتها قبل أن تهرب من ايران: لنجرب بعد سبعين عاماً من الثورة الروسية ما إذا كان إيماننا الحقيقي بالأدب جديراً بأن يجعلنا نعيد صوغ هذا الواقع المظلم الذي خلقته لنا ثورة أخرى – تعني بذلك الثورة الخمينية -، وكانت جلسات نفيسي مع طالباتها السابقات في الجامعة، تختار معهن كتباً في الأدب للقراءة والدرس، وفق معيار الإيمان العميق لمؤلفي تلك الكتب بالطاقة السحرية للأدب، جلسات تشكل الهيكل الذي يقوم عليه كتاب آذر نفيسي “أن تقرأ لوليتا في طهران” (صدرت ترجمته العربية عن دار الجمل في بيروت وبغداد، وكان صدر بالإنكليزية عام 2003 في الولايات المتحدة التي وصلت إليها الكاتبة عام 1997 بعدما فصلت من عملها كأستاذة جامعية للأدب الإنكليزي في بلدها ايران بسبب رفضها ارتداء الحجاب).

صف دراسي خاص في غرفة معيشة في بيت: الأستاذة امرأة وكذلك الطالبات نساء. مكان للتخلص من زي موحد فرضه النظام السياسي ولفتح نوافذ العقل والخيال التي أوصدها.

والكتاب سيرة امرأة من النخبة الإيرانية، عبر حضور نساء أخريات يؤكدن انتماءهن الإنساني بلا حدود، إذ يرحلن في كتب الحضارات الأخرى فتكشف لهن جوانب من قسوة النظام الشمولي. لذلك يندرج الكتاب في أدب الاعتراض الإيراني الذي يواصل حضوره في العالم (الى جانب السينما بالطبع) مذكراً بالأدب الروسي وحضوره خارج الستار الحديد الذي أقامه البلاشفة حول روسيا وملحقاتها.

لدى وصول الطالبات الى غرف المعيشة “يلقين بأرديتهن الخارجية وحجاباتهن الإلزامية فتتفجر منهن الألوان. كما يخلعن عن أرواحهن ما هو أعمق بكثير من الجلابيب، لأن كل واحدة منهن تتعرف شيئاً فشيئاً على ذاتها الفذَة، وتخط لنفسها الشكل الخاص بها”.

مع آذر نفيسي وطالباتها تحضر روايات نوبوكوف التي تضاهي أعمال فرانز كافكا في سوداوية تصويرها لأثر الاستبداد في روح الإنسان، لكن روايته “لوليتا” حجبت أعماله الأخرى ولم تقرأ سوى من خلال تيمة واحدة: عشق رجل عجوز لفتاة دون العشرين.

والى جانب أعمال نوبوكوف تحضر أعمال أخرى مثل “ألف ليلة وليلة” و”هاملت” شكسبير، وتفتح من خلالها الستارة على قسوة النظام الذي نصَب رجلاً أعمى أو شبه أعمى على الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية وحذف شخصية أوليفيا من النسخة الروسية لـ “هاملت” ورفض عرض الكثير من الأعمال الفنية لأسباب سياسية أو جنسية. خطوات لا معنى لها سوى تقطيع شرايين الحياة التي تصل أهل ايران بالعالم الخارجي: “عشنا في كنف ثقافة لا تقيم أي وزن للإبداع أو التميز في عمل أدبي، ولا تعتبره مهماً إلا إذا كان يخدم ذلك الشيء الأكثر إلحاحاً، وأعني الأيديولوجيا، فهذا بلد يؤوَل كل إيماءة تأويلاً سياسياً أياً كانت تلك الإيماءة، وهم يجدون أن ألوان إيشارب رأسي وربطة عنق أبي تمثل رموزاً للانحلال الغربي وللنزعة الإمبريالية، حلق اللحى ومصافحة الجنس الآخر والتصفيق أو الصفير في التجمعات العامة، كلها تقليعات غربية، إذاً فهي دليل دامغ على الانحلال، وهي جزء من خطة الغرب للتقليل من شأن ثقافتنا”.

4- حجر وحيد

لا يُسأل الحجر عن مكانه في الجدار

حين يلاصق حجارة غريبة.

ولا يسأل البناؤون المتعجلون

حين يقيمون جدار الحقل الطويل،

يداعبونه بلقب “خط ماجينو”.

لا يتوقعون أن الريح والمطر

سيكشفان هوية الحجارة

إذ يتفتت الكلسي

ويبقى الصوَان نافراً.

حجر وحيد لا يؤلف جداراً.

شارك المقال