إخفاق المعارضة السورية!…

اكرم البني
اكرم البني

يدرك الكثيرون أن المحاولات التي تتواتر منذ بعض الوقت لتجديد صورة المعارضة السورية لن تجديها نفعاً في تجاوز ضعفها وقصورها المزمن عن تحمل مسؤولياتها، كان أوضحها الندوة التي عقدت مؤخراً في الدوحة تحت عنوان “سوريا إلى أين؟” وخلصت إلى توصيات “بإعادة هيكلة مؤسسات الثورة والمعارضة والارتقاء بأدائها فيما يمكنها من تحقيق مطالب الشعب السوري المحقة والمشروعة وتمثيلها بكفاءة واحتراف ويؤهلها لتكون الحامل السياسي الذي يحظى بثقة الشعب وتأييده”، ليس فقط لأن من يتصدر هذه المحاولات هي رموز وشخصيات احتلت مواقع قيادية في صفوف المعارضة نفسها، وشكلت في غالبيتها عنواناً للعجز واستمراراً للتشتت والفرقة وأحياناً للفساد وعدم الصدقية، وإنما أيضاً لأنها ما تزال تلامس قشور المعضلة وتفتقر إلى الوضوح والجدية في كشف الأسباب العميقة والحقيقية التي أوصلت المعارضة السياسية السورية إلى هذا الدرك من الفشل والاخفاق.

أولاً، البنية التكوينية للمعارضة السياسية التي تعتمل داخلها حزمة من الأمراض خلفتها عقود طويلة من جور السلطة وظلمها، ما أضعف فرصتها في توحيد صفوفها أو الظهور كقدوة ومثلاً يحتذى في السلوك الديموقراطي والمثابرة والتضحية، وأشاع صورة لقادتها تضج بخلافاتهم الشخصية وبتنافس مرضي على المناصب، تفوح منه رائحة الأساليب المتخلفة والمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار، زاد تلك الصورة سوءاً عجز زعماء الفكر المعارض عن تقديم رؤية موضوعية لمسار الصراع وللآليات السياسية التي تضع في اعتبارها خصوصية المجتمع السوري بتعدديته القومية والدينية والمذهبية وحساسية ارتباطاته الإقليمية والدولية.

ثانياً، التخلي عن النهج السلمي واستسلام المعارضة المبكر للتحولات التي جرت نحو العسكرة ثم حماسها الطفولي “للانتصارات” التي حققها اللجوء إلى السلاح، الأمر الذي أدى إلى الوقوع في الفخ الذي نصبته السلطة ضد الحراك السلمي وإخضاع الصراع السياسي لقواعد العنف التي يتقنها النظام جيداً ويسعى من خلالها الى عزل الثورة عن دوائر التعاطف وتسويغ كل أنواع القهر والتنكيل ضدها، زاد الطين بلة وعزز تنحية الحقل السياسي وتهميش المجتمع المدني، سلوك الفصائل العسكرية التي لم تعر أي اهتمام للمرجعيات والحسابات السياسية ولم تتأن في اختيار معاركها، بل خاضتها في أماكن مكتظة مدنياً، ما أدى إلى ردود أفعال سلبية من حاضنة شعبية صارت عنواناً للحصار والقصف العشوائي، وتالياً خسارة قطاعات اجتماعية ترفض منطق السلاح ويصعب عليها إشهار تأييدها لثورة لا تستمد شرعيتها من ممارسات سلمية وحضارية تنسجم مع شعارات الحرية والعدل والكرامة التي تبنتها.

ثالثاً، تبسيط غالبية أطراف المعارضة السورية لقوة النظام السوري وقدراته الأمنية والعسكرية على المواجهة والبقاء، والرهان على سرعة اقتراب زمن سقوطه، مما جرّها الى بناء مواقف وتكتيكات مغامرة وأحياناً متهورة، غيّبت عن قصد أو دون قصد، الخصوصية السورية وتعقيداتها، إن لجهة تأثرها بحسابات الجوار الإسرائيلي، وإن لجهة بنية النظام القمعية ولحمته الطائفية وارتباطه بمحور نفوذ في المنطقة يمده بكل أنواع المساندة والدعم، وإن لجهة ما أظهرته النيات الغربية من ميل الى استثمار استمرار الصراع السوري كمستنقع استنزاف لخصومها بدءاً بروسيا، فإيران وحلفائها، إلى تركيا والمتطرفين الاسلامويين، بما في ذلك تضخيم الرهان على دور العامل الخارجي وخيار تدخله العسكري تأثراً بما حصل في ليبيا، ما أدى إلى قصور وتراجع اهتمام المعارضة بالتطورات والحاجات الداخلية وبأولوية مواكبة حراك الناس وهمومهم، من دون أن تقدر خطورة هذا القصور والتراجع في ثورة كالثورة السورية، جاءت مفاجئة وعفوية، وعطشى لقوى سياسية تتواصل معها مباشرة وتقودها ميدانياً.

رابعاً، تمدد جماعات الإسلام السياسي في الجسم المعارض وبشكل خاص الاخوان المسلمين، واستيلاؤهم على أهم مؤسساته ورهنها لإملاءات لا تمت الى المصلحة الوطنية بصلة، والأهم عدم اتخاذ موقف واضح وحاسم من تنامي الجماعات الاسلاموية المتطرفة بما في ذلك الاستخفاف بوزنها وتغطية أدوارها الغامضة إلى أن تمكنت من مصادرة روح الثورة وقيمها. فماذا يمكن أن نفسر حماس قادة المعارضة لهذه الجماعات ودفاع بعضهم وبشكل صريح عن “جبهة النصرة” بعد أن أدرجت دولياً في قائمة الإرهاب؟ أو حين شجع آخرون نشوء تشكيلات عسكرية تدعو الى دولة الخلافة وتغاضوا عن شعاراتها الدينية وعن ردود أفعالها الطائفية بحجة أولوية مواجهة السلطة؟ أو حين قلل آخرون من أهمية ما أوردته تقارير حقوقية عن انتهاكات وتجاوزات قامت بها الفصائل الاسلاموية في أماكن سيطرتها على أنها لا تشكل نقطة في بحر عنف النظام؟!، والأسوأ حين صمتوا عما قام به الاسلامويين من تهجير واعتقالات بحق الناشطين المدنيين والسياسيين، بما في ذلك تصفيتهم جسدياً، والأمثلة تبدأ برزان زيتونة ورفاقها، ولا تنتهي بإعلاميي كفر نبل، رائد فارس وحمود جنيد، والحبل على الجرار!. كل ذلك أفضى إلى تشويه دور المعارضة وأيضاً معاني الثورة وأفقد حملة مشروع التغيير الديموقراطي فئات متعاطفة معه، كانت مترددة ومحجمة بسبب غموض البديل المنشود، لتغدو متخوفة من تمدد سلطة الميليشيات الاسلاموية التي لم تختلف في ممارساتها عن أعتى الديكتاتوريات، ولا يغيّر هذه الحقيقة وضع المسؤولية الأساس في أسلمة الثورة على عاتق السلطة التي تقصدت تسعير الاستفزازات المذهبية وإطلاق قادة وكوادر الجهاديين الاسلامويين من سجونها، بل يؤكدها انزلاق قطاعات واسعة من المعارضة نحو خطاب عنفي تصعيدي، بدأ بالإلحاح على استجرار سلاح نوعي والمطالبة بتدخل عسكري خارجي، ويؤكدها أيضاً سلوك بعض قادة المعارضة اليوم، الذين لا يجدون ضيراً من استيلاء “جبهة فتح الشام” على آخر معقل مناهض للنظام في مدينة إدلب وأريافها، واصطفوا كالعميان وراء سياسة تركيا التوسعية والمهادنة مع النفوذين الإيراني والروسي، ثم انصاعوا لمؤتمراتهم في سوتشي والآستانة، بينما شكلت جماعاتهم المسلحة، رأس حربة لحكومة أنقرة، للتدخل عسكرياً لتطهير الشريط الحدودي، وخاصة مدينة عفرين، من أبناء شعبهم الأكراد!.

واستدراكاً، على الرغم من آلام الانكسار والفشل، وفداحة التضحيات التي تكبدها الشعب السوري، قتلاً واعتقالاً وتشريداً، ليس من خيبة أعظم من خيبة أمل السوريين بمعارضة سياسية كان يفترض أن توجههم وتقودهم، معارضة عجزت مراراً عن معالجة أزماتها ومشكلاتها المزمنة، وكانت عنواناً للعجز والفساد والارتهان والاخفاق، ولن يغيّر هذه الحقيقة استمرار الاعتراف الدولي والعربي ببعض جماعاتها، أو الدور الذي لا تزال تمارسه في حقلي الاعلام والتفاوض.

شارك المقال