عن قضاء “الديليفري” والترهيب 

ياسين شبلي
ياسين شبلي

تزامناً مع الأنباء التي تحدثت عن “تنازل” رئيس الجمهورية ميشال عون في محادثاته مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين عن إعتبار الخط 29 كخط حدود وإعتباره خط تفاوض، بدأت الأسبوع الماضي حلقة جديدة من مسلسل “قضاء غب الطلب”، بملاحقة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر “كبسات” أمنية عليه في ثلاثة أماكن تخصه، الأمر الذي كاد أن يتسبب بصدام بين القوى الأمنية المولجة بإحضاره وتلك المولجة بحمايته، وهو ما أوصل الى طلب الإدعاء على المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان بتهمة عرقلة تنفيذ مذكرة الإحضار بحق سلامة. في الوقت نفسه تقريباً ووسط صمت من قبل حليف العهد وراعيه الحقيقي “حزب الله” عن أنباء الترسيم، أو في أحسن الأحوال الاعلان عن أن الحزب هو وراء الدولة في هذا الموضوع!!، بدأت حملة تخوين وترهيب جديدة عبر بعض وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي ضد الناشطين المعارضين للحزب، الشيعة منهم بشكل خاص على خلفية ما نشر عن إكتشاف شبكات التجسس الإسرائيلية، والحديث عن وجود “صحفي” بين الموقوفين، تقول التسريبات انه جُنِّد بهدف “تشويه صورة حزب الله” بطريقة تذكرنا بـ “تهمة” زياد عيتاني بالترويج للتطبيع الثقافي مع العدو، وكأني بإعلام الحزب والذباب الالكتروني التابع له وجد في هذه القضية “ذريعة” للإنقضاض مرة جديدة على منتقديه ومعارضيه، خاصة وأننا على أبواب الإنتخابات النيابية التي وصفها الحزب عبر أحد مسؤوليه بأنها “حرب تموز سياسية”، مع ما يحمله هذا التوصيف من إتهام بالعمالة لكل من تسوّل له نفسه الترشح لهذه الإنتخابات في وجهه في لبنان عامة والجنوب بوجه خاص ووضعه موضع “الإسرائيلي”، مع العلم أن التسريبات نفسها تحدثت عن أن من بين المتورطين أحد أفراد التعبئة في “حزب الله” الذي إعتقله الحزب ولم يسلمه الى الأجهزة الأمنية الرسمية التي نفت علمها بالموضوع، الأمر الذي لا يعني بالضرورة أن كل أفراد التعبئة هم من المتعاملين مع العدو كما حاول أن يوحي إعلام الحزب بالنسبة الى معارضيه.

هذه التصرفات من “ثنائي” مار مخايل توحي – بغض النظر عن صحة هذا الأمر – وكأن هناك محاولة للتعمية على قضية ترسيم الحدود التائهة بين الخطين 23 و29، ولو أن الأمر على المستوى العام يعتبر أكثر تعقيداً، ويحمل مخاطر جمة إن كان على مستوى ما يعنيه تحويل القضاء في لبنان إلى قضاء موسمي أو “ديليفري” حسب الطلب في كل مرة يكون هناك مأزق سياسي، أو على مستوى ترهيب الناس وتهديدهم على خلفية آرائهم السياسية وإتهامهم بالعمالة من جانب طرف كان يحاضر مؤخراً بالحريات عندما تعلق الأمر بإنعقاد مؤتمرات سياسية لمعارضين عرب ضد بلدانهم، في إنتقائية مثيرة للسخرية المرة، والألم من كيفية تحوير الأمور وكَيلها بمكيال المصلحة الحزبية وحسب. ولما كان إستغلال القضاء في لبنان يتم لدوافع سياسية باتت معروفة، ولغرض الضغط السياسي المتبادل بين الأفرقاء السياسيين، وبالتالي أصبح من آليات الصراع السياسي المتعارف عليه للأسف الشديد، فإن ترهيب المواطنين وتهديدهم عبر التخوين هو أمر لا يمكن السكوت عنه، خاصة عندما يتم بطريقة ممنهجة من قبل محور له سوابقه في هذا المجال التي تبدأ بالتخوين عبر ضخ كم من المعلومات التضليلية بهدف الإغتيال المعنوي بداية، حتى إذا استنفذت كل محاولات الإسكات، تكون الكلمة الفصل لكاتم الصوت المجهول – المعلوم.

بدأت الحملة كما أسلفنا على خلفية كشف شبكات التجسس الإسرائيلية، واتخذت من وجود “صحفي شيعي” بين الموقوفين، ذريعة لمحاولة “شيطنة” كل معارض أو حتى منتقد لأداء “حزب الله” السياسي، وإظهاره بمظهر العميل والمتعامل مع العدو، مع أن هذا الإنتقاد يدخل في باب حرية الرأي والمعتقد الذي يكفله الدستور والقوانين اللبنانية ما دام لا يمس الأمن القومي للبلد. هذه الحملة بدأها الذباب الالكتروني، لتستكملها إحدى الصحف اليومية المعروفة بـ “مقتها” للتنميط، وبدعواتها المتكررة الى المعارضين لـ “تحسس رقابهم”، عبر تقرير لإحدى الصحفيات المغمورات، بعنوان مثير وخبيث هو “هيا بنا إلى الإعلام الشيعي المعارض” يوم 19 شباط الفائت، تتحدث فيه عن علاقة تعاون كانت قائمة بين الشهيد لقمان سليم ومؤسسته “هيا بنا”، مع الصندوق الوطني للديموقراطية NED الأميركي الذي تصفه بأنه الوجه الآخر لـCIA ، وعن تنظيم سليم لاجتماع عام 2008 بين القائم بالأعمال الأميركي مع “ثلاثة طامحين لإنشاء إعلام شيعي معارض مستقل”، وأرفقت التقرير بصورة لناشر ورئيس تحرير موقع إلكتروني معروف، من دون أن تسميه في محاولة خبيثة للربط بينه وبين ما جاء في التقرير مع ما يحمله هذا الربط من تحريض وسط بيئة حزبية مؤدلجة و”مسيرة” بإعلام الرأي الواحد. في الليلة نفسها وعلى محطة “المنار” ظهر تقرير عن الصحافي الموقوف بالإسم والتفاصيل والإتهامات المنسوبة إليه، يسير في الإتجاه نفسه وهو ترك الإنطباع بأن كل من يتعرض بالإنتقاد لسياسات “حزب الله” سواء في الداخل اللبناني، أو في الإقليم إنما هو عميل إسرائيلي، أو متآمر يقبض الأموال – التي تصل ويا للهول إلى 50 دولاراً للمقال الواحد – من السعودية وأميركا وغيرها من “دول الحصار”. تبع ذلك تهديد مباشر للناشط السياسي والأستاذ الجامعي باسل صالح على خلفية تعليق له على إحدى التغريدات “العنترية” في أعقاب الخرق الإسرائيلي للأجواء في بيروت الذي سبب هلعاً لدى سكان العاصمة والضواحي، والذي جاء رداً على إختراق المسيرة “حسان” أجواء فلسطين المحتلة .

إن هذه الموجة الجديدة من التخوين والترهيب، التي تأتي في أعقاب الذكرى السنوية الأولى لـ “إعدام” لقمان سليم، وكذلك الملاحقات القضائية التي تطفو فجأة على السطح لتعود وتخمد كذلك فجأة، تطرح السؤال هل هذه التصرفات تدخل في سياق شد العصب والتهويل على أبواب الإنتخابات النيابية، وبالتالي هي من “عدة الشغل” الإنتخابي، أم هي بداية لمرحلة جديدة من التضييق على الرأي الآخر ومحاولة إسكاته بالنسبة الى الترهيب، ومحاولة تصفية إرث سياسي ما وتهيئة الأرض لإرث سياسي آخر بالنسبة الى الملاحقات القضائية الإستنسابية، أم هي الأمرين معاً؟ والتي قد تؤشر ربما الى أننا على أبواب مرحلة سياسية جديدة هي مرحلة ما بعد إتفاق فيينا الذي يبدو أنه قد أصبح ناجزاً، والتي قد تكون مرحلة تسويات بدأت تباشيرها بالتنازل عن الخط 29 كحق من حقوق لبنان، وقد تتبعها تسويات أخرى تعيد تعويم هذه الطبقة السياسية، مقابل تنازلات أخرى تحت ضجيج المسيرات والشعارات البراقة كالعادة، والحديث عن إنتصارات خاصة مع “هزيمة” وخروج العامل العربي المتمثل بالعامل “السني” في لبنان من المعادلة السياسية أقله حتى الآن، تاركاً الساحة لأطراف حلف الأقليات. والسؤال الأهم يبقى إلى متى سيبقى الأحرار في لبنان في مرمى الأشرار و”كواتمهم” الإعلامية والحربية؟. أسئلة كتيرة قد تكون الإجابة عليها، بعض مؤشر الى ما ينتظر لبنان في الأشهر والسنوات المقبلة ربما.

شارك المقال