العالم يتغيّر والأسئلة تغلب الأجوبة ولبنان يتخبط بالصغائر

وليد شقير
وليد شقير

في 24 شباط 2022 تغيّر العالم. في هذا التاريخ لم يعد ما بعده مثلما كان قبله، وكرّس التعددية القطبية في العالم، وفتح الباب على نظام عالمي جديد سيتطلب وقتاً كي تتضح معالمه، بدخول الدب الروسي إلى أوكرانيا، ليضع الولايات المتحدة الأميركية في وضعية فرملة اندفاعها نحو مدّ نفوذها إلى أوروبا الشرقية وحدود الاتحاد الروسي.

الوقت الذي سيستغرقه رسم حدود النفوذ الغربي في هذه المنطقة من العالم وحدود اليد العليا لفلاديمير بوتين فيها، سيأخذ وقتاً، ويتطلب من أوروبا أخذ خيارات جديدة حول كيفية خفض تأثير روسيا على غربها، ومن دول الشرق الأوسط أن تتهيأ للعملية الانتقالية في توزيع القوة العسكرية والاقتصادية والنفوذ السياسي. فبوتين يحذر منذ سنوات بأن على الغرب أن يتنبه إلى أن موسكو لن تقبل استضعافها في عقر دارها عبر التغلغل من قبل الناتو في المنطقة الحيوية التي تتشكل من البلطيق والدول المجاورة لحدودها، خلافاً لتاريخ سطوتها على محيطها بشكل أو بآخر. هكذا ختم كلمته الأخيرة التي وجهها مع بدء قواته توغلها في الأراضي الأوكرانية، إذ قال إنه يتمنى “أن تكون كلمته سُمعت جيداً”.

فوثيقة الأمن القومي الاستراتيجي الذي وضعها بوتين العام 2009 ثم جرى تجديدها في العام 2015 ثم مؤخراً في تموز 2021، تم تنقيحها في عدد من المجالات، إلا تلك المتعلقة بالأمن الإقليمي للاتحاد الروسي.

وبحسب الوثيقة، فإنه “في حال قيام الدول الأجنبية بأعمال غير ودّية تهدد سيادة ووحدة أراضي الاتحاد الروسي، بما في ذلك تلك المتعلقة باستخدام تدابير تقييدية ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة، يعتبر الاتحاد الروسي أنه من المشروع اتخاذ إجراءات متناظرة وغير متكافئة، وضرورية للتصدي لمثل هذه الأعمال غير الودية، ومنع تكرارها في المستقبل”.

وهي تعتبر أن “مخططات نشر صواريخ أميركية متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ تشكل تهديداً للاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي”. وتحذر الوثيقة من أن “تصاعد التوتر في مناطق الصراع في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وشبه الجزيرة الكورية مستمر، ويتسبب في إضعاف أنظمة الأمن العالمية والإقليمية وخلق الظروف لانتشار الإرهاب والتطرف الدوليين”.

تتطلع استراتيجية بوتين المعلنة والمنشورة، إلى “حجز مكان لروسيا ضمن عالم جديد متعدد الأقطاب تحظى فيه بمكانة سياسية واقتصادية مؤثرة، إضافة إلى بناء علاقات ندّية مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا، مع احتفاظها بحق حلّ الأزمات في محيطها الإقليمي من دون مشاركة القوى الخارجية”.

لم يأخذ الغرب بجدية تلك التطلعات الروسية، في خطواته الاقتحامية لاستقطاب دول الاتحاد السوفياتي السابق، في السنوات الماضية، في وقت كانت القيادة الروسية مصممة في توجهاتها، لا سيما مع التحديث القياسي للقدرات العسكرية والتكنولوجية. والهدف معاكسة سياسة أميركا الهادفة إلى احتواء روسيا ووزنها الأوروبي.

للحرب في أوكرانيا أهداف بعيدة المدى وتداعياتها الكبرى ستستمر لسنوات قبل أن تتضح معالم النظام العالمي الجديد الذي ستنتجه، لكنها سنوات ستكون مليئة بالصراعات المتناسلة. ومن الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط ميداناً رئيساً لها، وهو ما يطرح موقع لبنان الضعيف فيها.

وإذا كانت الواقعية تفرض الاقتناع بأن لبنان لن يكون على الشاشة الدولية مثلما كان في السنتين الماضيتين، لأن التموضع في المنطقة بين المحورين الروسي والغربي، والمصالح التي سيفرزها سيعتمد على الدول المحورية بداية مثل إيران وتركيا وإسرائيل ومصر والسعودية ومعها المنظومة الخليجية، وليس على بلد متلقٍ وضعيف مثله، فإن هذا لا يلغي أن على القيادات اللبنانية أن تستشرف ما هو آتٍ.

الأجوبة عن الانعكاسات المباشرة لحرب أوكرانيا على لبنان معروفة، وهي مرة أخرى ستزيد من صعوبات العيش في البلد المأزوم: أسعار القمح الذي سيستورده بدل القمح الأوكراني سترتفع، أسعار المحروقات كذلك. والعقوبات الغربية على موسكو ستجبره على التحول نحو سلع عالية الأسعار من دول الغرب. والصراعات بين أهل السلطة على الاصطفاف المطلوب في هذه الأزمة وما يتبعها من تفاعلات ستتصاعد، كما أثبت بيان الخارجية بإدانة “الاجتياح الروسي” لأوكرانيا، بناء لإلحاح وطلب من أميركا والغرب. تنصلت الرئاسة من البيان وتركت لوزير الخارجية عبد الله بوحبيب أن يأخذ الأمر بصدره، فيما الرئاسة (وصهر الرئاسة) هي المبادر إلى طلبه في سياق لعبة استمالة واشنطن لأهداف باتت معروفة، هدفها حشر الرغبات الصغيرة الميؤوس منها في اللعبة الكبرى بين الدول…

أما غيرها من الانعكاسات الأبعد مدى، فإن الأسئلة في شأنها تغلب على الأجوبة. وإذا كان من الثوابت أن نوعية الاتفاق على النووي في فيينا ستؤثر على لبنان من زاوية الدور الإيراني فيه، فإن قابل الأيام سيحسم الأمور بين احتمالين: الحرب في أوكرانيا ستعجل بالاتفاق لأن واشنطن ستستغل الأزمة الكبرى للتغطية على التنازلات التي ستقدمها لطهران، لأنها تنتظر دوراً لها في مرحلة الصراع المقبلة مع موسكو، أم أنها ستتعامل مع طهران على أنها حليفة الكرملين وبالتالي ستؤخر الاتفاق لأنها ستطلب منها المزيد من التنازلات؟ ولكل من الحالتين إسقاطات على الوضع اللبناني.

وهل ستشمل مرحلة الصراع الأميركي المتصاعد مع روسيا العودة إلى معاكسة دورها في سوريا، حيث لها قواعد وحلفاء وترعى فيها دوراً لإسرائيل، أم أنها ستترك بلاد الشام لموسكو وللتخبط بين تركيا وإسرائيل وإيران ولعودة “داعش” المتعدد الوظائف إلى الظهور؟ ولكل من الحالتين حساب في الساحة اللبنانية.

دول المنطقة تتهيّب الموقف ويمتنع بعضها عن تأييد المشروع الأميركي لقرار مجلس الأمن بإدانة روسيا، ويفضل بعضها الدعوة إلى الحوار والحلول “بالطرق السلمية”، وتتجنب إسرائيل أن تكون شريكة في التقدم باقتراح عرض الاقتراح على الجمعية العمومية. دول تدرك أن ما حصل غيّر وجه العالم ويطلق مرحلة جديدة لم تنضج معالمها بعد. أما لبنان فتنطلق فيه التجاذبات على شأن يتعامل معه الفرقاء كأنه خلاف على حصصٍ في تعيينات إدارية أو على معمل سلعاتا في موسم الانتخابات…

شارك المقال