أوكرانيا ولبنان ومحنة الدولة الصغيرة

محمد علي فرحات

منذ حرب البوسنة والهرسك (1992 – 1995) لم تشهد أوروبا مأساة كالتي تعانيها أوكرانيا هذه الأيام. لقد تفكك الاتحاد السوفياتي الى دول عدة لكن الترددات لم تصل الى مستقر. ونجد الأمر واضحاً في خفة حكام كييف الذين انزلقوا الى وعود واشنطن وأهملوا الأصوات الداخلية التي تعارض جعل أوكرانيا منصة أطلسية في مواجهة روسيا. وما حدث أن واشنطن تركتهم لمصيرهم وانصرفت الى اقرار مزيد من العقوبات ضد موسكو. هكذا تدفع واشنطن الى تحويل أوكرانيا ساحة حرب يدفع ثمنها السكان المحليون، وتزداد الأوضاع سوءاً حين يتحقق ما ترغب به من أن يغرق الدب الروسي في وحول أوكرانيا وتبدأ موسكو بدفع أكلاف بشرية وسياسية واقتصادية، كما دفعت سابقاً في غزوها أفغانستان.

نحن أمام قيادة أوكرانية تتميز بالخفة وسوء التقدير، تماماً مثل حكام كثيرين أوصلتهم الديموقراطية المستجدة الى السلطة من دون تقاليد، خصوصاً في بلاد عاشت في ظل الاستبداد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ونحن أيضاً أمام فلاديمير بوتين الذي اكتفى بالقليل من الانماء الاقتصادي في وطنه الشاسع روسيا، وأرهق الاقتصاد بتطوير عمليات التسلح الذي جعلته منافساً عسكرياً صلباً للولايات المتحدة، ومصدراً للأسلحة الى دول كثيرة بما يزيد عن تصديره القمح والغاز.

لا ينسى بوتين ارثه السوفياتي ويخشى أن تدفع روسيا ثمن الهجمة الأميركية والأوروبية على ما تبقى من الارث الذي نافس الغرب لعقود مديدة. ليس بوتين شيوعياً ولن يكون لكن خطبه الأخيرة تفضح حنينه الى مجد موسكو الغارب، وعزمه على اعادة العالم الى التعددية القطبية، وأن لا تستأثر واشنطن بمقعد الدولة الأقوى والأكثر تأثيراً في العالم.

هل يرغب بوتين في “تصحيح التاريخ” بحسب تعبير الرئيس السوري بشار الأسد في اتصال مع سيد الكرملين؟ لا نعتقد أن بوتين بهذه الخفة، فهو يرغب فقط بدفع حلف الناتو عن حدود بلاده وأن يعود حكام كييف الى كنف الصداقة مع الجار الروسي. ولكن، وبغض النظر عن مستوى ادارة حكام كييف لسياسة بلادهم، هل يعني هذا أن أوكرانيا بحكم موقعها الجغرافي مضطرة الى تقييد سياستها الدولية وعلاقتها مع الجوار الأوروبي؟ هذه ليست قضية أوكرانيا وحدها، بل هي قضية كل دولة صغيرة تجاور دولة كبيرة ذات نفوذ وأطماع. وفي الشرق الأوسط تتجلى الحالات التالية: تركيا أمام العراق وسوريا. ايران أمام العراق واليمن وسوريا ولبنان. وما قبل انهيار الحكم السوري كانت دمشق تتحكم بمفاصل الدولة اللبنانية.

وفي بيروت يتساءل المواطنون الذين أرهقتهم الكورونا وفساد الطبقة السياسية الحاكمة وسرقة المال العام والمال الخاص من البنوك الخاصة ومن البنك المركزي، يتساءلون عن المشترك بين مأساتي أوكرانيا ولبنان، وكيف أن حكام كييف بادروا الى تحدي الجار الروسي الكبير من دون أن يتفاهموا مع شركائهم في الوطن ذوي الأصل الروسي وأن يتفاهموا أيضاً مع المعارضين لحكام كييف ونزعتهم النازية الجديدة. نذكر هنا أن أوكرانيا في بدايات الحرب العالمية الثانية كانت مقسمة سياسياً بين جزء شرقي يتحكم فيه جوزيف ستالين وجزء غربي يسيطر عليه أدولف هتلر. وعندنا في لبنان، هل استشار “حزب الله” معارضيه اللبنانيين في طريقة سيطرته على مناطق الجنوب وفي تدخلاته العسكرية في المنطقة العربية؟ وفي مكان آخر، هل تستشير القوى اللبنانية المعارضة سائر اللبنانيين في كلامها السياسي القائم على الاستقطاب الدائم وعدم مراعاة الوضع الجغرافي المحكوم بعلاقة مع سوريا، يريدها اللبنانيون قائمة على الاحترام المتبادل فيما يحاول السوريون دفعها الى استتباع اللبنانيين لقرار دمشق، مثلما كان الأمر سابقاً؟ هذه العلاقة الشائكة تتطلب تعاوناً لبنانياً على المصلحة الوطنية المشتركة وليس استبعاد كل طرف الطرف الآخر، كما هي الحال في أوكرانيا التي أغرت روسيا باجتياحها، بغض النظر عن نيات الروس تجاه الأوكرانيين.

وما يحدث في أوكرانيا مرشح للتطور الذي قد يدفع موسكو الى أخطاء تحول انتصاراتها هزيمة، لكن الجهة التي تدفع الثمن هي الشعب الأوكراني الذي رأى العالم أطفاله الأبرياء يهيمون مع أمهاتهم بحثاً عن مأوى داخل وطنهم وفي الجوار الأوروبي. والعالم كله يشهد هذا القتال بين شبح ستالين وشبح هتلر. فيما يجسد الرئيس الروسي صورة العملاق الخائف من كائنات أقل منه حجماً وقوة، ذلك أن بوتين قرأ جيداً أن الولايات المتحدة قد تحاول الدفع الى تقسيم روسيا الى ثلاث دول. ولم لا؟ يقول خبراء أميركيون، فهي واسعة جداً أمام عدد سكانها المحدود. يرى بوتين ذلك في الحقيقة والمنام ويقلق، ثم يدفع الأوكرانيون الثمن غالياً.

شارك المقال