كييف الأوكرانية… معركة حسم أو حرب عصابات أفغانية طويلة؟

رامي عيتاني

العالم يشتعل والأحداث تتوالى منذ لحظة إعلان الروس الحرب على أوكرانيا. هذه العملية العسكرية التي تحصل منذ حوالي أربعة أيام ليست وليدة ساعتها وحسب، بل هو قرار إتخذته القيادة الروسية في العام ٢٠١٤ منذ أن استردت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا والتي تعتبرها روسيا أصلاً أرضاً منها وسكانها من الروس وليسوا من الأوكران. كما أن ما حصل مؤخراً في إقليمي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين في جنوب أوكرانيا واعتراف الروس باستقلالهما، وهي مناطق يسكنها الروس أصلاً، كانت الشعلة الأولى لبداية هذه الحرب. وبحسب الروس، فانه في العام ٢٠١٤ عندما جاء نظام بيتر بورشينكو الى الحكم في أوكرانيا وبدأ بسياسة التمييز العنصري بين الأوكران والسكان الموجودين في أوكرانيا من أصول روسية، أخذت ملامح القرار لدى القيادة الروسية تنضج أكثر وأكثر للقيام بعملية تأديب للنظام الأوكراني، الا أن ما أخّر هذه العملية منذ العام ٢٠١٤ الى اليوم هما سببان رئيسان:

– الأول هو عدم وجود فولوديمير زيلينسكي في السلطة وإنما كان نظام بيتر بورشينكو الذي حافظ على العلاقة مع الروس مع استمرار انفتاحه على الغرب، الأمر الذي لم يكن ليشكل حينها ازعاجاً كبيراً للروس من الناحية الجيوسياسية، وما قلب الطاولة لدى الروس هو نظام التمييز العنصري بين الأوكران وسكان الجنوب والشرق الناطقين بالروسية الذي مارسه النظام الحالي.

– الثاني هو أن أوكرانيا في عهد بورشينكو حافظت على كل الاتفاقيات مع روسيا، وبالتالي لم يكن هناك نظام معاد لها في أوكرانيا في تلك الفترة على عكس ما هو حاصل اليوم بوجود نظام زيلينسكي، علماً أن روسيا لا يزعجها وجود نظام في أوكرانيا منفتح على أوروبا لأنها أصلاً بحاجة الى الانفتاح والتواصل الاقتصادي والتجاري معها. أما وصول النظام الحالي المعادي فهو الذي سرّع في تنفيذ القرار المتخذ أصلاً منذ العام ٢٠١٤ ليعاد وضعه على نار حامية جداً ثم ليتطور أكثر ويصبح زيلينسكي شخصياً هو الهدف ومهما كانت الكلفة، وبرأي القيادة الروسية ان العملية ستأخذ بعض الوقت، فالمرحلة الأولى شارفت ملامحها على الانتهاء، أما المرحلة الثانية وهدفها الإطباق على العاصمة كييف فسبقها إنزال جوي في منطقة الفوف، وهي منطقة شرق أوكرانيا قريبة من الحدود البولندية، والهدف من ذلك عزل العاصمة كييف عن شرق أوكرانيا الملاصق لدول الاتحاد الأوروبي كبولندا وتشيكيا وفصلها عنها. والمقصود بالاطباق ليس بالضرورة عسكرياً وإنما بمعنى إجبار زيلينسكي على التنحي أو التفاوض بشروط الروس، لتأتي بعد هذه العملية السياسية المرحلة الثالثة وهي انسحاب الجيش الروسي وبقاؤه في منطقتي لوغانسك ودونيتسك المستقلتين وبقاء قواعد عسكرية للجيش الروسي فيهما من أجل ضمان أمن هذه المناطق، علماً أن الانفصاليين في هذين الإقليمين قاموا في العام ٢٠١٤ بطرد الجيش الأوكراني منهما نهائياً وأصبحا خارجين عن حكومة كييف .

لكن الوقائع على أرض المعركة تشير بعد مرور أربعة أيام من بداية الحرب إلى اصطدام الدب الروسي برئيس أوكراني صلب لا ينم عن تاريخ كوميدي في التمثيل، بالإضافة الى مقاومة شرسة استطاعت تأخير التقدم الروسي على كييف نفسها ومن ثم استجلاب عنصر الثقة الدولي الخائف أصلاً، بحيث أن الاستعدادات الأوكرانية للهجوم الروسي بيّنت مدى أهمية غياب عنصر المفاجأة بعد أن حذرت الدول الكبرى أوكرانيا من خطورة الهجوم الروسي، وتأكدت من حتميته قبل بدئه فكانت الاستعدادات الأوكرانية وخطة الدفاع على مستوى الهجوم، فضلاً عن أسباب أخرى نذكر منها مثلاً:

– توزيع الطائرات على أماكن خارج المطارات الحربية ولا تزال تتصدى للطيران الروسي حتى اليوم.

– تعطيل مدرجات المطارات عبر وضع شاحنات معبأة بالمتفجرات، ما حرم القوات الروسية من انزال طائرات نقل ضخمة قادرة على حمل أعداد كبيرة من القوات الخاصة والعتاد اللازم.

– توزيع القوى والأسلحة بطريقة مكنتها من صد معظم الهجمات حتى اليوم.

– تلغيم مناطق عدة بما فيها الواجهة البحرية على البحر الأسود، وتلغيم وتفجير الكثير من الجسور التي ساعدت في إبطاء التقدم الروسي.

– ظهور دبابات أكثر حداثة كـ T-80 و T-90إضافة إلى ناقلات جند BMP-3، لكن كسابقاتها تم تدمير بعضها والبعض الآخر سقط غنيمة حرب.

– تأخر بعض قوافل الدبابات الروسية عن الوصول إلى أهدافها بسبب عدم توافر الوقود وأجهزة ملاحة حديثة والاتكال على خرائط عسكرية ساهم بشكل كبير في ازدياد عدد قتلى الجيش الروسي.

– قيام المدنيين الأوكران بإزالة اشارات الطرقات وأسماء الشوارع والمدن، كل ذلك أدى إلى تأخير القوافل، ودخول بعضها في الاتجاه والطرقات الخطأ.

– ازدياد طول مسافة التغلغل في الأراضي الأوكرانية زاد من صعوبة تلبية الحاجات اللوجستية من وقود وطعام وذخائر، وأصبح على الشاحنات عبور مسافات طويلة تتعرض خلالها لكمائن عدة.

– دخول بعض المدن بشاحنات عسكرية غير مدرعة وسيارات دفع رباعي Tigre ذات التدريع الخفيف، ما جعلها فريسة سهلة للكمائن. وكان اليوم هو يوم الـ Tigre بامتياز حيث شوهدت العشرات منها محترقة أو مدمرة في شوارع خاركوف وشوارع مدن أخرى.

– بدء ظهور نتائج استعمال صواريخ Javelin و NLAW المضادة للدبابات و Stinger المضاد للطائرات.

– إعلان دول أوروبية عدة نيتها إرسال الآلاف من الصواريخ والقاذفات المضادة للدبابات والطائرات، ما يزيد من قدرات أوكرانيا الدفاعية وبالتالي المزيد من الخسائر الروسية.

– دخول عامل جديد وهو استعمال الطائرات المسيرة والتي قامت بقصف بعض القوافل بطريقة دقيقة، كما قامت ببعض الهجمات بالتنسيق مع القوات الخاصة الأوكرانية بحيث يكون الهجوم على بعض القوافل متلازماً من الجو والبر.

– عدم توافر أجهزة الرؤية الليلية للقوات الروسية التي تتوقف عن القتال ليلاً، ما يؤخر من سرعة تقدمها، كما يجعلها هدفاً لهجمات القوات الأوكرانية التي زوّدت بعض فرقها بمناظير ليلية.

– ارتفاع الروح المعنوية الأوكرانية بعد التمكن من الصمود لأربعة أيام وصد الهجمات الروسية، ما أدى إلى حملة تطوع كبيرة لدى المدنيين والحصول على السلاح للدفاع عن أرض الآباء، وتنظيم حملات دعائية كبيرة لتشجيع المواطنين على تصنيع قنابل molotov منزلية ورميها على الآليات الروسية، كما بدأ تصنيع العوائق المضادة للدبابات، والقطع المعدنية الحادة القادرة على تعطيل إطارات الآليات المدولبة.

– عدم التمكن حتى اليوم من إحكام الطوق حول المدن الكبرى وخصوصاً كييف التي لا تزال تتلقى أطناناً من المعدات والذخائر من دول حلف الناتو.

– تحسس دول الناتو الخطر الروسي الداهم أدى إلى قيام أكبر حملة لدعم صمود كييف بالسلاح والعتاد والمال، بل حتى دعا بعض الدول الى فتح باب التطوع للدفاع عن أوكرانيا. كما بدأت دول أخرى تعيد النظر بسياستها الدفاعية، وعلى سبيل المثال أعلنت ألمانيا أنها ستنفق في السنوات القليلة المقبلة مبلغ ١٠٠ مليار يورو لتطوير جيشها وقدراتها الدفاعية.

– بدء وصول مقاتلين من جنسيات مختلفة للقتال في أوكرانيا.

اذاً من الواضح أن الغرب استدرج روسيا الى عمق المستنقع الأوكراني لإدخالها في حرب استنزاف طويلة.

فصواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات والقاذفات المضادة للدروع فضلاً عن طائرات البيرقدار المسيّرة التي أرسلتها تركيا أصبحت جميعها في حوزة الجيش الأوكراني، وغيرها من الأسلحة الدقيقة والنوعية، ناهيك عن أن مشاهد أرتال الدبابات والناقلات الروسية المحترقة في الطرقات قد تتكرر في الأسابيع وربما الأشهر المقبلة مع تمادي الحرب وتصاعدها وقد تلازم ذاكرة الجيش الروسي لعهود كما لازم الكابوس الأفغاني سلفه الجيش الأحمر لسنوات.

الا أنه على الرغم من ذلك كله، لا تزال صورة الهجوم الروسي ضبابية. وعلى الرغم من الخسائر المرتفعة، وعدم تحقيق الهدف المتوقع وهو إسقاط حكومة كييف بالقوة واعتقال أعضائها، لا تزال موسكو ترسل أعداداً هائلة من الدبابات والآليات وقطع المدفعية والراجمات، وسط توالي الردود من أجل دعم هذا أو ذاك، ومنها رد الرئيس الشيشاني قاديروف الذي أعلن التعبئة العامة وحشد ١٠ آلاف مقاتل لدعم العملية العسكرية إلى جانب الروس، ونشر عبر وكالة الأنباء الروسية “سبوتنيك” رسالة مباشرة للرئيس الأوكراني قال له فيها: “اذا كنت حقاً تريد الالتقاء بنا فنحن ندعوك الى الالتحاق بكل سرور بفوج أحمد حاجي قاديروف”.

تأتي كل هذه الأحداث في ضوء أحداث خطيرة ومنها سيطرة موسكو على مفاعل تشرنوبيل النووي وحجز جميع العاملين فيه، ثم كلام خطير جداً بانتقال الصراع بين روسيا وأميركا إلى الفضاء بعد التهديدات التي صدرت عن رئيس وكالة الفضاء الروسية ديمتري روجوزين للولايات المتحدة بصورة مباشرة بإسقاط محطة الفضاء الدولية ISS من مدارها حول كوكب الأرض على الأراضي الأميركية. جاء هذا الكلام عقب تهديدات جو بايدن بعزل روسيا ومعاقبتها اقتصادياً ومحاولات العديد من الدول إخراجها من نظام “سويفت” المصرفي الذي سيسبب عاجلاً أم آجلاً انهياراً كبيراً في الاقتصاد الروسي.

الا أنه على الرغم من كل هذه الأحداث فان سيناريو المعركة النهائية لم تكتمل مقوماته، وحتى ذلك الحين تبقى التوقعات تتأرجح بين أن يكون مصير كييف كمصير غروزني التي تم تدميرها والسيطرة عليها، أو يكون الهجوم على أوكرانيا كالهجوم على فنلندا عام ١٩٣٩ في ما عرف بـ “حرب الشتاء” حيث تكبدت القوات السوفياتية خسائر كبيرة على يد مجموعة صغيرة وتحول النصر المبين إلى هزيمة نكراء، أم أن الدعم الدولي المتزايد لأوكرانيا وتوزيع الأسلحة على جميع أطياف الشعب الأوكراني سيؤديان في نهاية المطاف إلى اصطدام الروس بحرب الشوارع والعصابات كما حصل معها في أفغانستان وعلى الطريقة الأفغانية، فتكون أميركا والغرب نجحا في ايقاع الدب الروسي في مصيدة حرب استنزافية طويلة؟.

ويبقى السؤال حول قدرة القيادة الأوكرانية على استخدام هذه المنظومات من الأسلحة المدعومة والمزودة لها وقدرتها على السيطرة عليها في حال خفت أو نضبت علماً أنها تواجه جيشاً ضخماً من أقوى جيوش العالم مع خلفية مفتوحة وتمويل دائم؟

وهل نحن أمام حرب سمتها الأساس تطويق المدن وعزلها والرهان على الصمود لا أكثر بانتظار نضوج فرص التفاوض بين القطبين الأميركي والروسي حيث لا مكان له حتى هذه اللحظة في ظل جهل العالم بالنوايا الحقيقية للروس من وراء هذا الغزو؟

وحدها الأيام القادمة ترسم لنا الصورة الأوضح لمصير الصراع الروسي – الأوكراني – الدولي وكيف سينتهي.

شارك المقال