سقوط مزدوج!

علي نون
علي نون

لا تشي أمور الوساطات الدولية الذاهبة الى موسكو بأي أمل في نجاحها بغض النظر عن هوية الوسيط وأهميته، أكان ذلك على المستوى الدولي أو على مستوى العلاقة البينية مع صاحب القرار الروسي.

فات أوان الدخول على الخط لتهدئة الحرب والسعي الى إيقافها، أقله بالنسبة الى فلاديمير بوتين. وهذه معادلة عامة ان صح الاستنتاج: من يدخل حرباً كبرى ويطرح أهدافاً لها لا تقلّ كبراً، لا يمكنه التوقف في وسط الطريق وقبل أن “يعرف” تماماً أو جزئياً مآلات المواجهة وصواب أو خراب حساباته الميدانية فيها، وهذه تسري على بوتين كما على سواه والاّ دفع هو شخصياً الثمن الأول وأعلن هزيمته باكراً.

وفي الحالة الراهنة يبدو الأمر أصعب من المعتاد وأعقد من قانون الحرب: بوتين يشن حربه الشاملة الشخصية الأولى، ويضع كل مصيره فيها كأنه في ذلك يلعب لعبة الروليت الروسية الشهيرة: اما أن يفوز بكل شيء أو يقتل نفسه بنفسه. وواضح الى الآن أنه قرر المضي الى الأمام لأن طريق العودة صارت مصيرية وتعني خسارته في موسكو بقدر خسارة جيشه في كييف.

دخل على المكشوف وأمام أنظار ألعالم برمّته ورمى كل أهدافه على الأرض الأوكرانية دفعة واحدة وأمام الجميع، وقياسه هو ذاته: أرض محروقة في المعركة العسكرية، وسقف “محروق” في المعركة السياسية والديبلوماسية. وهو من أول الطريق صار أسيراً لذلك القياس ولا يستطيع الفكاك منه. بل يمكن التخمين بأنه ساوم مجمع الجيش والأمن في القيادة الروسية على نقيضين: اما أن “أسترجع” أوكرانيا واما أن “تسترجعوا الأمر مني!”، وهذا ربما (والله أعلم) يفسر، أو يمكن أن يفسر كيف يمكن لشخص واحد في الزمن الراهن أن يبدو وكأنه يتحكّم الى ذلك الحد بمصير دولة عظمى مثل روسيا، ويذهب معه العالم الى ذرى ارتدادية غير مسبوقة في التاريخ، وكيف يمكن لذلك الشخص أن يختصر كل السلطات بارادته وحده، وأن يحكم بمزاجه ويقرر الفناء من عدمه! بل أكثر من ذلك: أن يظهر الأمر وكأنه يمكن “السماح” لأي بني آدم بحمل مفتاح دولة مدرعة بالسلاح النووي لوحده، وأن يأخذها الى الحرب على أقاربه وأهل ملته بحجة اعادتهم الى بيت الطاعة، وله أن يعيد البلاد في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين الى ما كانت عليه أيام الفظاعات الكبرى والحروب الكبرى والمجاعات الكبرى والانعزالات الكبرى في القرنين السابقين؟.

لم يحصل ذلك حتى في أيام القياصرة، ولا في أيام البلاشفة، ولا في أيام الاتحاد السوفياتي (المرحوم) بل دائماً كانت هناك عصبة قيادية ما تقرر ما تقرر جماعياً أو بالأكثرية، ويتولى الأول فيها الإبلاغ والمتابعة ورعاية التنفيذ. صورة روسيا اليوم ليست كذلك أبداً، لا قيصر ولا مجمع امبراطوري، ولا بلاشفة ولا لينين ولا مكتب سياسي ولا لجنة مركزية ولا لجان فرعية ولا مؤتمرات حزبية ولا نقاشات مفتوحة ولا مغلقة… بل الأغرب من هذا كله هو أن ستالين نفسه (وهو ملهم بوتين ومثاله الاعلى!) كان في الشؤون المتصلة بالخارج والعلاقات الخارجية “يستمع” الى أهل الاختصاص والمعنيين ويترك مساحة للتصرف بعكس الحال المتصل بالداخل في كل مجالاته وعناوينه. وهو في التاريخ لا يزال ملتبساً: البعض يقول انه أنقذ روسيا وأوروبا الشرقية والبعض الآخر يقول انه دمر المسار الطبيعي لبلاده وأسس حكم الفرد الذي يستند اليه بوتين اليوم. لكنه في الحالتين لم يباشر الحرب بل تصدى لها، ولم يقرر التوسع بل مشى مع طبائع المرحلة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية. بل هو في الأساس انتصر على تروتسكي لأن هذا أراد تصدير الثورة الى دول الجوار الأوروبي والآسيوي قبل نضوج انتصارها في روسيا والدول التي انضوت في الاتحاد السوفياتي لاحقاً، في حين ارتأى ستالين العكس تماماً رافضاً ذلك الجموح الخارجي بكليته.

صورة موسكو اليوم مأسورة بشخص واحد هو بوتين أولاً وثانياً وثالثاً وعاشراً… وبعده شخصيات تحمل عناوين مسؤوليات كبيرة لكنها لا تقرر شيئاً، بل تبدو من ظواهر الأداء أنها موظفة عند بوتين وفي شركته الخاصة، وتتسابق لتقديم فروض الطاعة والتزلف وقبول المهانة العلنية من رب عملها، وجلّها ببغائي يردد ما لا يقتنع به مثل سيرغي لافروف وزميله سيرغي شويغو، الأول في السياسة الخارجية والثاني في العسكر.

وعلى الرغم من ذلك، فان زلزال القرار بشطب دولة مثل أوكرانيا عن الخارطة الأوروبية بالقوة المسلحة ما كان له أن يسلك مسار هزة بسيطة. قد تكون المعارك الفرعية التي خاضها بوتين في الشيشان وجورجيا والقرم ودونباس وسوريا هي التي دفعت الى قبول قرار السعي الى أوكرانيا، باعتبار أنها ستكون “معركة عسكرية” أخرى وقد تحدث هزّة في أوروبا والعالم، لكن المعركة صارت حرباً تامة وتكاد أن تشطب كل تراكمات البناء الناجح الذي تلا التجربة السوفياتية الفاشلة، بل الأفظع من ذلك هو أنها قد تدخل روسيا الطبيعية في أتون ظلام غير مسبوق نتيجة عار العدوان على الجيران والأقارب والعزلة عن العالم الحديث وتبعات العقوبات المؤلمة على كل قطاعات الانتاج ومتطلبات العيش في عالم اليوم. ثم الأخطر من ذلك كله هو جعل الحكي عن السلاح النووي أمراً روتينياً أو شبه عادي.

لكن حتى في هذه الروسيا لا يمكن تصور أو افتراض كل ذلك العدم، ولا تصديق قدرة شخص واحد على اللعب بمصائر البشر بمثل تلك الرعونة والعبثية، بل الأصح ربما هو أن الأمر ليس كذلك، وأن الأمور رهن بخواتيمها، وأن الحرب لا تزال في غبارها وعندما ينجلي ذلك الغبار يخرج القرار. قد تسقط أوكرانيا عسكرياً لكن روسيا لن تحتمل تبعات ذلك السقوط. وقد يسقط زيلينسكي في كييف لكن بوتين سيسقط في موسكو. لا يحتمل عالم اليوم الارتداد الى التاريخ الأسود والمظلم ولم يعد فيه متسع لأنصاف الالهة، والخيارات ضيقة: اما أن تدفع روسيا ثمن حرب بوتين أو أن يدفع بوتين ثمن حربه.

وبانتظار جلاء غبار تلك الحرب، تبقى الوساطات جزءاً من ذلك الغبار!

شارك المقال