سوريا وأوكرانيا!

اكرم البني
اكرم البني

لا يخطئ من يعتقد بأن قيادة الكرملين ما كانت لتتجرأ وتجتاح أوكرانيا لولا نجاح تدخلها العسكري في سوريا، وهي التي عانت لأكثر من عشر سنوات من حرب طويلة ومرهقة في الشيشان، وحاصرتها عقوبات اقتصادية بعد أحداث جورجيا (2008) وبعد ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية (2014).

وأيضاً لا يخطئ من يجد تشابهاً بين سوريا وأوكرانيا في حسابات السيطرة والنفوذ العالميين، بصفتهما موقعين إستراتيجيين أكثر من مردودهما ومنفعتهما الاقتصادية، فأوكرانيا حاضنة لأنابيب الغاز المغذية لأوروبا ومدخل لحصار روسيا من الغرب، وسوريا قريبة من منابع النفط ومن دولة إسرائيل ولعبت، تاريخياً، دوراً كبيراً في استقرار المنطقة.

كما يصيب من يعتبر أن البلدين هما اليوم تحت رحمة مخطط عبثي ومدمر لرئيس روسي يستهتر بحيوات الناس ويتغنى بمنطق الغلبة والمكاسرة في المنازعة على الهيمنة والنفوذ من دون أن يقيم اعتباراً لأبسط مصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها، والأنكى أنه يتوهم القدرة على إقامة إمبراطورية دكتاتورية يؤبد من خلالها سطوته وفساده، ليس من خلال التميز التنموي والتنافس الاقتصادي والعلمي، بل عبر استخدام القوة المفرطة أو التهديد بما يملكه من جيش متخم بالسلاح النووي، من دون أن يعتبر أو يتمثل الدرس المؤلم، بأن ذلك الخيار جرّب طويلاً فيما مضى ولم يفض سوى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه وإلى المزيد من التردي والمعاناة والآلام للشعوب، ومنها، إذا تجاوزنا حجم الدمار الهائل، الأعداد المذهلة من الضحايا والمعتقلين والمشوهين في سوريا التي خلفها طمع قيادة الكرملين في التمدد غرباً، فأية كارثة إنسانية تنتظر الشعب الأوكراني نتيجة حرب عشوائية بغيضة سوف تأكل، بلا شك، الأخضر واليابس، وتخلف مئات ألوف الضحايا وموجات لجوء ضخمة باتجاه الدول الأوروبية، مضيعة مستقبل ملايين الأطفال الأبرياء؟

لكن وجوه التشابه بين أوكرانيا وسوريا، لا تحجب بعض المفارقات اللافتة بين تجربتي البلدين في مواجهة استمرار العدوان الروسي الغاشم عليهما. المفارقة الأولى، أن التدخل العسكري الروسي في سوريا جاء من أجل منع اسقاط نظام استبدادي غير شرعي ينضح قهراً وجرائم وفساداً… نظام يشبه إلى حد كبير صورة أنظمة الاتحاد السوفياتي الذي يحلم الرئيس الروسي باستعادته… نظام يستند إلى نموذج دولة استبدادية شمولية تخنق تماماً الفضاء العام، وتتدخل في أدق تفاصيل الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عبر سطوة وإرهاب أجهزة أمنية وعسكرية مطلقة الصلاحية… نظام لم يتوان للحفاظ على سلطته من استخدام أشنع وسائل الفتك والتنكيل بما في ذلك الأسلحة المحرمة دولياً، كالسلاح الكيماوي، بينما جاء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا بالضد وفي مواجهة حكومة منتحبة شرعياً وتحاول اعتماد قواعد الحياة الديموقراطية ومعايير حقوق الانسان تقرباً من اشتراطات الاتحاد الأوروبي الراغبة في الانضمام اليه.

ثاني المفارقات هي التباين الصارخ في موقف المجتمع الدولي من أحداث سوريا وأوكرانيا، حيث حظي التدخل الروسي العسكري في سوريا (2015) برضا الدول الغربية وأميركا وكان مدعاةً لارتياح إقليمي واسع، ما أشعر السوريين بأن ثمة ما يشبه التواطؤ أو المؤامرة الكونية لتمرير ما يجري من قتل وتدمير ولإجهاض حلمهم في التغيير، وتثبيت أركان النظام القائم، إن إرضاء لرغبة جارته إسرائيل، وإن من باب غياب الاستعداد لتحمل أعباء انهيار مفاجئ للدولة السورية، وإن خوفاً من البديل الاسلاموي، خاصة بعد ظهور تنظيم “داعش” في سوريا وانطلاق الحملة الدولية ضده، بينما كان الأمر مختلفاً في أوكرانيا حيث ظهر وبتواتر لافت ما يشبه الاجماع في ادانة العدوان الروسي ودعم الشعب الأوكراني وحقه في سيادته وتقرير مصيره، تتوج بخلق اصطفاف عالمي متحد ضد حرب بوتين وسياسته التوسعية، ربطاً بإنزال عقوبات غير مسبوقة اقتصادياً ومالياً ضد المعتدي الروسي، بما في ذلك قرارات حظر طيران الاتحاد الروسي في الأجواء الأوربية، ومنع بواخره من استخدام الموانئ الغربية، وإبعاد فرقه الرياضية عن المشاركة في المباريات العالمية والأوروبية، جنباً إلى جنب مع ما ظهر من حماس لافت لدى غالبية الدول الأوروبية وأميركا وكندا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وغيرها، لإرسال أسلحة وأموال تمكن الأوكرانيين من المواجهة والصمود، كما فتح الأبواب لاستقبال ملايين اللاجئين منهم.

وتتكثف المفارقة الثالثة في أن التدخل العسكري الروسي في سوريا اقتصر على دور ضارب من بعيد من دون أن يتكبد خسائر تذكر، متوسلاً في معاركه الميدانية بقايا الجيش السوري وأحياناً الميليشيا الإيرانية، بينما جرى الأمر على العكس في أوكرانيا، حيث خاضت القوات الروسية المعارك بجسدها، الأمر الذي كبّدها وسيكبدها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وهو ما بدأت مؤشراته تظهر يوماً بعد يوم، ربطاً بما يبديه الشعب الأوكراني من بسالة وعزيمة وتضحية، ولا يغيّر هذه النتيجة لجوء قيادة الكرملين كعادتها، إلى أسلوب الأرض المحروقة وامتهان القصف بالصواريخ والطيران، وإلى الزج في معارك المدن ببعض الانفصاليين الأوكرانيين أو بمجموعة فاغنر الإرهابية أو بعض الكتائب الشيشانية، أو الشبيحة السوريين!.

واستدراكاً، سواء تقدم بوتين عسكرياً أو أكره على الانسحاب من أوكرانيا، وسواء تراجعت الدول الأوروبية وأميركا أمام الاندفاعات الروسية ومخاطرها النووية أو عززت موقفها، فإن ما جرى ويجري في أوكرانيا قد حوّل انتصار قيادة الكرملين في سوريا إلى هزيمة وإن على المدى الطويل، ما دام التاريخ يعيد تأكيد حقيقة، وخاصة التاريخ السوفياتي، بأن منطق القوة والعنف لا يصنع مستقبلاً آمناً وواعداً، وأن من يصادر حريات الآخرين وحرية شعبه لا ينتصر أبدا!.

صحيح أن ثمة فرصة نجاح مؤقت للتمدد وتوسيع النفوذ الخارجي، وتالياً لإحياء وتغذية نزعات امبراطورية من ماضٍ غابر، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الطريق باتت مؤلمة ومكلفة ومرفوضة من مختلف الشعوب، أياً تكن المسوغات، ولنقل تفتح الباب على خيار يفيض بالصراعات العبثية والدمار والضحايا والأزمات، وكلنا يتذكر ما حل بالاتحاد السوفياتي وأوهامه الإمبراطورية، وبعده الانكفاء المذل للولايات المتحدة الأميركية إثر عجزها عن إدارة طموحها الإمبراطوري تحت وطأة نتائج حربيها في أفغانستان والعراق.

شارك المقال