في لبنان والمشروعيْن!

علي نون
علي نون

أخذت الحرب الروسية على أوكرانيا شيئا من عادياتنا اللبنانية وأبعدتنا خطوة عن تفاصيلها الكثيرة، وعن كوننا ضحايا عهد الثنائي ميشال عون وحزب ايران.

“احتجنا” الى حرب كبرى، ميني عالمية، كي نبتعد أو ننكفئ عن متابعة تلقف تبعات حالة حرب محلية “ناعمة” ذات بعد اقليمي تشنها ايران بواسطة حزبها وبغطاء شرعي يوفره عون، على لبنان، الدور والسيادة والسلطة والشرعية والمساحة الرحبة بغرض احتكارها كلها والتصرف بها تبعا لأهدافها أولا وأخيرا.

وكان اللبنانيون أو الجزء الأكبر منهم، يتلقفون ما يجري ويدفعون من بقايا مخزونهم القيمي والثقافي والمعنوي والنفسي والمادي والحياتي اثمان ذلك الذي يجري… ثم يمارسون هوايتهم الوطنية العامة بالانتظار: انتظار مفاوضات فيينا “النووية” لمعرفة مآلات أمورهم، ومستقبلهم، ومصير نظامهم، والى أين المسار العام ومصير بعض الاستحقاقات الراهنة، مثل ترسيم الحدود البحرية للبناء عليها آمال حفر آبار الغاز العزيزة والمنتظرة والمعوّل عليها. ثم مصير الانتخابات النيابية وما اذا كانت ستجري حقا أم ستطير! ثم ما يفترض أن يليها من انتخابات رئاسية أواخر العام الحالي. وبين ذلك بعض “التفاصيل” المتعلقة بالمفاوضات الحكومية مع صندوق النقد الدولي، وخطة استيراد الدعم من مصر والاردن لتحسين أحوال الطاقة الكهربائية مرحليا… الخ!.

الحرب في أوكرانيا وعليها، دفعت بمعطى الانتظار ذاك الى بعد آخر وحسابات أخرى، ووسّعت مدار التحسبات والتوقعات والتحليلات: العودة الى الاتفاق الغربي مع ايران بالصيغة التي كان عليها أصلا، تعني مبدئيا، إستئناف مرحلة الضنى في لبنان وغير لبنان من “ساحات” اللعب الايراني التوسعي. لكنها يفترض أن تعني في الوقت عينه انفراجات أكيدة في ملفات هموم اللبنانيين الراهنة باعتبار أن الايراني الذي سيرتاح سيفك العقد التي يشبكها في حبال الوضع اللبناني، وهذا سيعني حرفيا (اذا أمكن!) أن الترسيم البحري سيصل الى خواتيم مثمرة، وأن الانتخابات النيابية ستجري في موعدها، وأن المفاوضات مع صندوق النقد ستشهد انطلاقة إيجابية أكيدة، وأن البلد في الإجمال، سيشهد انفراجات معقولة. ايران بهذا المعنى ستعتبر نفسها منتصرة ولم تعد في حاجة الى اشعال النار في أزمات ورقتها اللبنانية لابتزاز الأميركي أو غيره، بل يصير من مصلحتها تهدئة الأمور طالما أن نفوذها سيبقى الأكبر في لبنان!.

لكن هناك قراءة معاكسة انطلاقا من المعطى الأوكراني المستجد: لبنان عند حدود سوريا، وهذه فيها حضور روسي كبير ومؤثر وواضح. وروسيا في حرب ضروس مع أوكرانيا، ومنها وبسببها في مواجهة مفتوحة مع أوروبا وأميركا تطال كل شيء الا المواجهة العسكرية المباشرة. وهذا يعني أن حسابات المرحلة السابقة تغيّرت، وأن سوريا ستكون على موعد مع تطورات مختلفة عن تلك التي سهّلت الدور الروسي فيها. وإيران موجودة على خط التماس عينه، وحزبها في لبنان على موجتها. واذا حصل المتوقع (والمنطقي) فان النار ستعود الى الاشتعال بضراوة أكثر، وهذه المرة من خلال بدء التعرض للقوات والقواعد الروسية، في موازاة العودة الى استهداف ايران وجماعاتها، والنظام وبقاياه. والمعارضة السورية ستعود الى الانتعاش على أيدي الأميركي نفسه الذي سبق وفطّسها وحجّمها، بحكم الضرورة والمصلحة ووفقا لأحكام النزاع الدولي الذي أعيد فتح كل أبوابه مع الدب الروسي، أي عودة الى مناخات الحرب الباردة إياها.

وايران في سوريا مع روسيا في السياق العام، وفي موقع حامي النظام وبقاياه. وهي هناك ستكون عرضة لطرفين متضررين مباشرة من وجودها ودورها: إسرائيل بطبيعة الحال، وغالبية السوريين تلقائيا. وحزبها في لبنان لن يستطيع البقاء بعيدا عن تلك المواجهات، بل الطبيعي والمألوف أنه سيعود الى الانخراط في الحرب السورية بعديده وعدّته. وهذا يعني أن لبنان سيكون على موعد مع استنفار تأزيمي شبيه بالمرحلة السابقة على نكبة إيصال ميشال عون الى الرئاسة! انطلاقا من بديهة أنه لا يمكن أن تكون إيران مستهدفة في سوريا ومرتاحة أو مريحة في لبنان، بل هي عبر حزبها ستحاول تشديد آليات التعطيل والتحكّم في وطن الأرز ردّا على تسعير استهدافها في سوريا، واستباقا لما يمكن أن يصيب حليفها الروسي الموضعي هناك، الذي أنقذها في حقيقة الأمر من هزيمة نكراء كانت تلوح أمامها قبل بدء دوره العسكري في أيلول من العام ٢٠١٥.

الأرجح تبعا لمنطق الأمور، واذا استمر المنحى الأوكراني تصاعديا وليس تنازليا، أن يشهد الوضع السوري كسرا للستاتيكو الراهن، وأن ينعكس ذلك الكسر على لبنان سلبيا بطبيعة الحال، وأن تعجز إيران عن تلقف “ايجابيات” عودتها إلى الإتفاق النووي تبعا لتعقيدات وتشابك مشهد المواجهة الدولية المفتوحة مع فلاديمير بوتين.

أي أن لبنان سيبقى ضحية حرب الاستحواذ الايرانية عليه. مثلما أن سوريا كانت ضحية ذلك السعي التمددي التخريبي. مثلما أن أوكرانيا اليوم هي ضحية المشروع الالغائي الروسي، استئنافا للسعي الى إعادة احياء عظام الامبراطورية التي تشظّت وتفتتت.

المعطى العام الجامع بين مشروعي القيادتين في طهران وموسكو، هو العدم والعبث: ربط الاحياء الذاتي بتمويت الآخرين. واشتراط إكمال البناء الخاص بتكسير الأبنية الكيانية المجاورة. والسعي الى تظهير الهوية القومية الذاتية من خلال معس وإهانة الهويات الخاصة بأقوام قريبة وبعيدة. وإعتماد العنف والآلة العسكرية والحرب والتخريب وسائل حصرية لإحكام السيطرة والتحكّم وتحقيق المراد والأهداف. وهذا لن يؤثر عليه وفيه، عبور طارئ لإتفاق في فيينا، أو وساطة ديبلوماسية ما، صينية أو إسرائيلية أو تركية.

المشروعان الروسي والايراني يعنيان حروبا تدميرية مفتوحة، ولا شيء آخر… وهما في الأساس لا يملكان ذلك الشيء الآخر للأقوام والشعوب القريبة منهما والبعيدة عنهما سواءً بسواء!

شارك المقال