خبر صغير بدلالات كبيرة

علي نون
علي نون

المعلومات الني نشرت في لندن عن اعتقال مسؤولين عسكريين وضباط استخبارات في موسكو على خلفية اتهامهم باعطاء فلاديمير بوتين معلومات غير صحيحة عن الوضع الأوكراني، تشير الى أمرين أساسيين: الأول، هو أن بوتين مثل سائر الطغاة يريد تحميل غيره تبعات قرارته الفاشلة. والثاني، هو أن هذه الرواية برمتها قد (قد!) تحمل إشارات الى استعداد زعيم الكرملين للتفاوض في أدنى الاحتمالات، ولايقاف الحرب في أقصاها.

الاعتقالات التي شملت رئيس جهاز الاستخبارات ونائبه وعدداً من الجنرالات ليست خبراً مألوفاً في روسيا بوتين، لكنها لا تخرج عن مأثورات روسيا في العقود الماضية… لا في العهد السوفياتي ولا قبله في العهد الامبراطوري. اما مع بوتين فهي استعادة لذلك الأداء من جملة الاستعادات التي يعمل عليها، ولا تنفصل عن الصورة التي يريد ترسيخها داخلياً وخارجياً من أنه ديكتاتور تام بصلاحيات كاملة ويستطيع أن يفعل ما يشاء.

وصعب جداً الأخذ بالتبرير الذي يقدم لتلك الاعتقالات: ليست أوكرانيا دولة مقفلة ونائية ومستجدة في لائحة الأعداء كي يقال ان بوتين يحتاج الى أخذ معلومات استخباراتية عن أوضاعها! هذه نكتة سمجة خصوصاً وأن هوس بوتين، رجل الاستخبارات السابق، بالجارة المتفلتة يجعله في غنى عن كتبة التقارير لاعانته على اتخاذ قراره المدمر في شأنها. اما اذا كان الأمر كذلك فتلك كارثة. واذا لم يكن كذلك، وهذا الأرجح، فان الهدف من تمرير خبر الاعتقالات هو تكراراً، محاولة وضع مسوؤلية التعثر الخطير في خطة السيطرة على أوكرانيا على مرؤوسيه أولاً، ثم محاولة تبرير الخسائر الكبيرة بشرياً وآلياً أمام عموم الروس المتبرمين أصلاً من الحرب.

اما بالنسبة الى اعتقال الجنرالات الكبار فهو يمكن أن يكون في مكانه لجهة التقصير الميداني، لكن الأمر يغفل مسؤولية بوتين نفسه الذي لم يحسب صحيحاً قدرة الأوكرانيين على التصدي والصمود والمواجهة ولا تصميم القيادة في كييف على القتال ضد الجار الأكبر والأخطر الهادف الى إعادة الزمن الى أيام البؤس السوفياتية السابقة.

هو صاحب القرار والمسؤول عن هذه النكبة. وهو المستبد الذي يريد من حوله أن يسمعوه ما يناسبه ويناسب طروحاته وليس الحقائق والوقائع التامة. مشكلته في أوكرانيا ليست في تعثر الزحف العسكري بل في رأسه هو أولاً، في افتراضه القدرة على إلغاء دولة بالقوة من الوجود، وعدم استيعاب معنى ذلك أوروبياً وأميركياً وعالمياً في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وعدم توقع حجم ردود الفعل على جريمته، ثم قصوره الخطير عن توقع مدى قدرة روسيا على تحمل تبعات تلك الجريمة مالياً واقتصادياً وديبلوماسياً وأخلاقياً.

فلاديمير بوتين أسير شرنقته وأسلوبه وعدم اتزانه: ضابط استخبارات يريد أن يحكم دولة عظمى على طريقة عمل جهاز الأمن، ويريد أن “يفرض” بالقوة والعنف نهجه على الخارج مثلما يفعل في الداخل الروسي. رجل أمر يعمل في السياسة، ورجل سياسة لكنه ليس استراتيجياً ولا يعرف العالم ولا يفهمه من خارج الأطر الذهنية التي تدرب عليها واعتمدها ونجح فيها. يشبه في ذلك ما كانه صدام حسين في العراق لكن مع جرعة عنف داخلي أقل. صاحب رأي لكنه ليس رؤيوياً. وصاحب مشروع استعادي لكنه لا يعرف التمييز فيه بين الممكن والمستحيل. رجل قوي لكنه ليس رجل دولة. يتفاخر بعضلاته وليس بعقله. ويستعرض قدراته الجسمانية وكأنه ذاهب الى مبارة ملاكمة أو جودو وليس حاكماً لأمة تعج بالعباقرة والمبدعين والعلماء والمخترعين في كل المجالات، وأنتجت للبشرية ارثاً أدبياً وفنياً لا يفنى.

أخطأ في حساباته ووقع في الجبّ. والمصيبة هي أنه لا يستطيع التراجع الآن. ولذلك ربما، قد يكون خبر الاعتقالات في موسكو بداية لتلمس عذر التراجع طالما أن “سوء التقدير” سببه خطأ الاستخبارات!.

لكن مع شخص خطير ومقفل ويعتقد أنه على حق، لا تصحّ حسابات المنطق. وقد يتبين لاحقاً ربما، أن بوتين وجه ضربة استباقية الى مكامن الخطر الداخلي عليه في مجتمع الاستخبارات والجيش، وأقفل باباً قد تأتي عبره رياح المحاسبة على الفشل في أوكرانيا وأمام الناتو والعالم.

…كان يوري اندروبوف رجل الاستخبارات والأمن الأول في الاتحاد السوفياتي. والوحيد من نوعه ربما، الذي عرف كيف يوظف “معلوماته” في خدمة بلده. واقعيته جعلته يتلمس من دون رتوش حقيقة الحال في الامبراطورية الاشتراكية “العظمى”، ومدى الهريان الضارب في البنى التحتية والفوقية لمعظم دولها ولمركزها في موسكو. انتبه باكرا الى انسداد الأفق امام امكانية مقارعة ألعالم الغربي في ظل الحقائق والوقائع الأساسية التي عرفها عن قرب، ورأى ما لم يره غيره في القيادة السوفياتية، وحاول الانقاذ: هو من “اكتشف” ميخائيل غورباتشوف ومساره الانفتاحي والاصلاحي، ودفع به الى الصفوف الأولى ممهدا أمامه الطريق نحو القمة. وهو من “اكتشف” الضابط الشاب في جهاز الاستخبارات فلاديمير بوتين وجعل منه أحد أعمدة الأمن الاستراتيجي وعضوا في النخبة المصطفاة لذلك الجهاز الأسطوري. والسيرة تقول ان اندروبوف “شاهد” الانهيار قبل أن يحصل وحاول تفاديه، مباشرة بعد أن وصل الى قمة السلطة في العام ١٩٨٣، واستراتيجيا من خلال تحضير الزعيم الشاب غورباتشوف للقيادة في اللحظة المناسبة. والافتراض يقول انه بنى رؤاه على استنتاجين: الأول، هو أن الاصلاح من دون قوة يوصل الى الفوضى. والثاني، هو أن القوة من دون ضوابط توصل الى الكارثة!. والمفارقة العجيبة هي أن محاولة الاصلاح التي قادها غورباتشوف إنتهت الى الخراب وحصل الانهيار “الحتمي”! فيما عملية الإحياء التي يقودها بوتين تذهب ركضا الى النتيجة نفسها مع جرعة رعب ارتدادي دولي غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كان اندروبوف واقعيا ورؤيويا. واخر همه البلف والاستعراض، لكن ربيبه وتلميذه بوتين لم يتعلم منه، سعة الأفق وبعد النظر وخطورة تجاهل الحقائق والأرقام، ثم تجاهل خطورة الخلط بين الأمنيات والامكانات، والمبالغة في تقدير الذات!، والعبرة الأولى هي أن رجل الدولة الاستراتيجي يكون واقعيا ولا يكذب على حاله ولا على غيره. وبوتين على ما يبدو لا يفعل غير ذلك من وراء تسريب خبر تافه عن “اعتقالات” في موسكو!.

شارك المقال