45 عاماً على إغتيال كمال جنبلاط… البيك الرفيق!

عبدالله ملاعب

إبان إغتيال كمال جنبلاط في 16 آذار 1977، طافت شوارع لبنان من جنوبه الى شماله بتظاهرات شعبية واسعة لرفاق بيك المختارة الذي انتفض على الاقطاع بمفهومه التقليدي مؤسساً حزباً تختزله كلمة “الانسان”.

“إغتيال للحرية والرغيف في الوطن” كان أحد أبرز الشعارات التي رفعت بعد اغتيال “المعلم” كما لُقّب. فهو المفكر والأديب والفيلسوف والسياسي والروحاني والشاعر الذي بدأ بنظم الشعر باللغتين العربية والفرنسية وهو في السابعة من العمر. درس علم النفس وعلم الاجتماع في جامعة “السوربون” في فرنسا ونال إجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت في العام 1940 ومارس على أثرها المحاماة من دون تخليه عن شغفه بالفيزياء والكيمياء والجبر، فأنشأ معملاً كيميائياً في المختارة الى جانب دراسة الاقتصاد في الجامعة اللبنانية. كما درس طب النبات ترجمة لشغفه بالطب.

دخل كمال جنبلاط البرلمان النيابي في العام 1943 كنائب عن جبل لبنان بعد وفاة ابن عمه حكمت جنبلاط إذ كان عليه أن يرث المقعد النيابي، فانتفض عليه بفعل إنتفاضه على السياسة بمعناها التقليدي إذ مارسها كعلم تماماً كما مارس الطب وعلوم الاقتصاد والاجتماع. كان قارئاً محترفاً، يُنقل عنه إيعازه الى الرفاق بضرورة قراءة ما لا يقل عن كتابين في الأسبوع. أحب الفلسفة السياسية وألهمته أفكار الفيلسوف “التقدمي” جان جاك روسو أحد أهم فلاسفة عصر التنوير.

في العام 1949 أسس كمال جنبلاط الحزب “التقدمي الاشتراكي” كي يكون الرافعة للعمل السياسي الاجتماعي اللبناني، إذ أراد جعل لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه لا ملجأ للطوائف، وتنقية الدولة ومؤسساتها من الفساد الذي استشرى في عهد الرئيس بشارة الخوري. قاد جنبلاط ثورة بيضاء على بشارة الخوري في العام 1952 مطيحاً به بفعل الارادة الشعبية والتكتل النيابي الوازن الذي رأسه الرفيق كمال جنبلاط “صانع رؤساء الجمهوريات”، إذ نجحت الحركة السياسية التي قادها في الاطاحة بالخوري وانتخاب كميل شمعون، ابن دير القمر الشوفية الذي تربى أيضاً في قصر المختارة الى جانب كمال جنبلاط في دارة سيدة القصر آنذاك والدته الست نظيرة. أظهر كميل شمعون اعجابه برؤى جنبلاط السياسية والاجتماعية والعربية فهو كان عضواً في “الجبهة الاشتراكية الوطنية”، كما أظهر عزماً على محاربة الفساد الذي كان مستشرياً في عهد الخوري. ولكن بعد وصوله الى سدة الرئاسة فشل “فتى العروبة الأغر” كما أسمته الصحف العربية في العمل على هاتين الركيزتين، إذ بقي الفساد يستشري ونقل شمعون البندقية من كتف المعسكر العربي الى الكتف الغربي على الرغم من رسائل كمال جنبلاط متعددة الاتجاهات التي عبّر عنها ذات يوم بصريح العبارة أمام ولي العهد السعودي سعود بن عبد العزيز وبحضور كميل شمعون، إذ قال عن شمعون والخوري: “قلنا لهذا كن فكان وقلنا لذاك زل فزال”. لا بل كرر ممارسات بشارة الخوري التي أطاحت به، إذ زوّر هو أيضاً نتائج الانتخابات النيابية في العام 1957 مسقطاً كمال جنبلاط وصائب سلام وغيرهما كي يمدد لنفسه، فعاد المشهد الشعبي ذاته في وجه ما وصف بـ “المارونية السياسية”، واندلعت بعد عام ثورة 1958 التي أطاحت بشمعون وكان وقودها اغتيال رفيق كمال جنبلاط، نسيب المتني نقيب المحررين آنذاك وعضو الحزب “التقدمي الاشتراكي” الذي استشهد رمياً بخمس رصاصات في الثامن من أيار 1958.

أراد كمال جنبلاط تغيير النظام السياسي الذي رآه “مجزأ للارادة اللبنانية والنفسية اللبنانية”، بل معززاً “للهوة بين اللبنانيين” وذلك لثلاثة أسباب يلخصها بالانطواءات في باطن الوجدان الاجتماعي لأجزاء واسعة من السياسيين اللبنانيين، وخوف بعضهم من زوال إمتيازاتهم المجحفة، والوضع العربي المحيط الذي أراد خصوم جنبلاط سلخ لبنان عن عروبته وعربيته بسبب الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، إذ قرروا الوقوف في وجه القضية العربية المركزية.

ما لا يعرفه الكثيرون عن كمال جنبلاط أوضحه الوزير السابق ونائب رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” السابق محسن دلول في حديث لـ “لبنان الكبير”، إذ تحدّث عن أهمية الكيان اللبناني بالنسبة الى كمال جنبلاط “الذي وعلى الرغم من دعمه المطلق للقضية الفلسطينية والارادة العربية الا أنه وقف في وجه ضم لبنان الى الجمهورية العربية وأبلغ جمال عبد الناصر بذلك، معتبراً أن لبنان عليه أن يبقى خارج الجمهورية العربية كي يقوم بدوره بالشكل الصحيح”.

ما كان كمال جنبلاط ليرأس الحركة الوطنية التي ضمت ما يقارب 70% من اللبنانيين لو لم يكن العربي اللبناني الذي عرف ما يجب تبنيه من القضايا العربية وما يجب تعديله في النظام السياسي اللبناني. كان حازماً تجاه الفاسدين، واصفاً اياهم بـ “مهابط الوزراء”، مقترحاً في البرنامج الاصلاحي المرحلي للحركة الوطنية الذي أطلقه في العام 1975 جملة من القرارات والقوانين الهادفة الى ازاحتهم أبرزها: تنفيذ قانون الاثراء غير المشروع على كل من يقدم خدمة عامة من سياسيين وموظفين، إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة الرؤساء والوزراء مؤلفة فقط من قضاة عوضاً عن هذه الموجودة اليوم التي تضم قضاة ونواباً، والغاء الطائفية السياسية عبر تعديل النظام الانتخابي للاتيان بممثلين حقيقيين عن الشعب.

ورأى دلول أن “تأثير كمال جنبلاط على السياسة العربية يكاد يضاهي لا بل يتفوق على تأثيره في الداخل اللبناني، فهو الذي قال له الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران يوم تعرف اليه: ماذا تفعل في السياسة ولك كل هذه المعرفة بالفلسفة والطب والأدب؟. هو الذي ألهم جمال عبد الناصر الذي أوعز الى وزرائه بالاصغاء الى ما يقوله البيه “لا مناقشته”. وهو الذي وقف في وجه مطامع السيطرة على لبنان رافضاً الدخول في ما أسماه السجن العربي الكبير متسلحاً برؤيته للبنان وبقربه من الجماهير، إذ أنهى كمال جنبلاط بيوتات وزعامات وعائلات سياسية خرجت عن الشمعونية وعن الارسلانية وعن مجمل اصطفافاتها المناطقية والطائفية ومشت خلف البيك الرفيق الذي كانت أكبر مهرجاناته السياسية في صور وأكثرها في طرابلس وأقواها في بعلبك. أما معاركه السياسية فكان أقساها في الشوف، سقط في بعضها ونجح في أخرى لكنه بقي وحزبه الى اليوم ويستمر”.

شارك المقال