في العودة السعودية

علي نون
علي نون

تعود المملكة العربية السعودية مرة أخرى لتؤكد المؤكد من أنها لا تترك لبنان فريسة أعدائه ولا تتخلى عنه على الرغم من الأذى الذي طالها من البعض فيه.

المباشرة بوضع آليات صندوق المساعدات الذي أقرته قمة جدة في شهر ديسمبر(كانون الأول) الماضي بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، هي البداية وليست النهاية. لكن الأهم من ذلك هو أنها تعني أن الرياض لم تفقد الثقة بلبنان وإن فقدتها بقيادته الدستورية. ولم تفقد الثقة بقدرة اللبنانيين على حفظ بلدهم على الرغم من فقدان تلك الثقة بالجماعة التابعة لايران والعاملة وفق أجندتها على الضد من أجندة المصالح الوطنية اللبنانية العليا والسفلى. ولم تتخلَ عن رعايتها الدهرية لوطن الأرز على الرغم من تخلي تلك الجماعة عن المبادئ التأسيسية للبنان وعن هويته العربية وارتباطه العرقي والسلالي والمصلحي بالمجموع العربي العام. ولم تيأس من إمكان وقف انحدار المسار الوطني اللبناني العام الى هاوية الاصطفاف في المحور المضاد الذي ترعاه وتدعمه وترفده ايران تبعاً لسياساتها المتبعة منذ أربعة عقود في جوارها العربي وغير العربي.

ما قالته وتقوله القيادة السعودية وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان هو أن اليأس مفردة غير واردة في مدونة عمل الرياض وسلوكها، لا في السياسة ولا في الأطر المنسلّة منها، ولا في مسيرة التنمية المذهلة والمنطلقة بزخم لا نظير له، ولا في التصدي المستدام للارهاب بكل ضروبه وأشكاله وهوياته، ولا في الرد الحاسم على أي عدوان خارجي، ولا في تثبيت الربط بين الأمن الوطني ومسار البناء، ولا في تدعيم أواصر مجلس التعاون الخليجي وعراه، ولا في انتهاج سياسة خارجية واقعية ومؤسساتية وعادلة، اذا صح التعبير، أي قائمة على مبدأ المعاملة بالمثل وعدم التدخل في شؤون الغير ورفض تدخل ذلك الغير، أياً تكن هويته وقدرته وامكاناته في شؤون المملكة الداخلية أو في الشؤون المتصلة بمصالح الدولة ورعاياها وكيفية ادارتها لتلك الشؤون والمصالح، ولا في لجم كل ما لا يستقيم مع تلك القيم المبدئية أيّاً كان مصدره، ولا في المسار الاصلاحي الناهض في الداخل والذاهب الى ملاقاة العصر والدنيا والحداثة والرحابة والانفتاح ضمن الضوابط التي تفرضها مبادئ الدستور والقوانين المرعية والقيم والفضائل الراسخة في وجدان السعوديين أباً عن جد ومن كون المملكة أرض الرسالة وموئل البيت العتيق ومهبط الوحي.

مفردة اليأس تلك لا ترد في الكتاب السلوكي الذي تقرأ فيه قيادة المملكة، بل لا يُلحظ في اللغة التي تستخدمها لابلاغ القريب والبعيد بقرارتها وتوجهاتها وسياساتها… ومن ضمن ذلك ما يتصل بنا نحن في لبنان، على الرغم من أن لبنانيين كثراً أصابهم اليأس والقنوط من أداء أصحاب السلطة والنفوذ والفعل والقرار في لبنان، ومن امكان حصول تعديل جذري في سلوكياتهم التي دمرت جلّ المقومات السيادية والاقتصادية والمالية والسياسية للبلد وتكاد أن تدمر القليل الباقي منها.

الصندوق السعودي الفرنسي الذي يشتمل على مبلغ يتراوح بين سبعين ومئة مليون دولار (وجلّها من المملكة في الواقع) والذي وضعت آليات عمله في باريس بين وفد الرياض بقيادة المستشار اللامع نزار العلولا ومعه السفير السعودي في بيروت اليقظ والمجتهد وليد البخاري، سيطلق من بيروت نفسها. وأهمية الأمر أكبر من حجم الأموال المرصودة لاعانة اللبنانيين على الدهر ونوائبه ومساعدتهم في تدبير بعض شؤونهم الخدماتية والحياتية بمختلف عناوينها. أهميته الأولى في كونه دلالة على أن عودة المملكة الى لعب دورها الوازن في المعادلة الوطنية اللبنانية هي مدخل لاعادة ثقة المجتمع الدولي والمجموع العربي والجهات المانحة، دولاً ومؤسسات بلبنان، وذلك في بدئه وخلاصاته يثبت ويؤكد الدور التاريخي للمملكة ازاء لبنان وكونها حجر الرحى في بناء أي تحرك داعم وايجابي إزاء أوضاعه ومشكلاته وأزماته على مدى تاريخه الحديث. وأهميته تالياً تكمن في أن الرياض لا تخرج عن التزامها الواقعية في نهجها الديبلوماسي الخارجي ولم تعد تقدم الهدايا والهبات والمساعدات من خارج سياقات السياسة العامة المعلنة الا في المسائل ذات الطابع الانساني العاجل والضروري منه والمستدام سواء بسواء. ولكل حالة ظروفها وطبيعتها ومناخها، والأداء السعودي في هذا الاطار، الرسمي تحديداً، هو سلوك معتمد منذ عقود ويستند الى منظومة قيم أخلاقية وثقافية وعاداتية متجذرة وأساسها اغاثة الملهوف والمحتاج ودعم مسارات الانقاذ والتنمية في البلاد المحتاجة والمنكوبة. والأرقام التي صرفت في ذلك النهج تقاس بعشرات مليارات الدولارات إن لم يكن بالمئات وتوزعت على ديار العرب والمسلمين في افريقيا وآسيا وعلى غيرهم.

والواضح بالنسبة الى لبنان هو أن المملكة تفتح نافذة على عودتها اليه، المطلوبة من عموم اللبنانيين، والتي تتالت المناشدات في شأنها من مختلف الهيئات والمرجعيات الدينية والسياسية الوطنية المعتدلة والهيئات والجمعيات الاقتصادية والأهلية بالاجمال، وفي ذلك يلبي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان النداء ويأخذان المناشدة مأخذ التلقف والتجاوب لتأكيد أواصر التعاون والأخوة وعدم ترك أمور الشقيق الأصغر في مهب الريح الصفراء والعوز والفاقة وأسيراً لمحاولات استلحاقه بالمشروع الايراني وسلخه عن محيطه العربي ودوره الطبيعي الاعتدالي والوسطي في محيطه والعالم.

لكن ذلك في جملته لا يعني التراخي في متابعة القضايا الخلافية أو التي سببت الأذى للبنان والسعودية على حد سواء، ولا الابتعاد عن المسار العربي والدولي الجامع الذي يطالب أصحاب السلطة الشرعية بأخذ مصالح لبنان في حسبانهم قبل مصالحهم الذاتية والخاصة، والشروع في تنفيذ الاصلاحات الحاسمة واللازمة والشرطية لبدء عملية إنقاذ طويلة الأمد، واعتماد الشفافية التامة والمانعة للفساد المستشري، وتصويب الشطط الذي ضرب علاقات لبنان بأشقائه وأصدقائه الكثر، واعادة تحديد وتوضيح التزاماته العربية وسياساته المتصلة بهذا المعطى المصيري، وإبعاده عن الاصطفاف في محور العداء الايراني، ومتابعة البحث في الاستراتيجية الدفاعية التي تعني وضع سلاح الدولة وحده دون سواه في موقع الحق الحصري بحمله وطرق استخدامه، وادانة كل سلوك مضاد لذلك، ورفض تغطية أو مراعاة ما يقوم به حزب ايران لمصلحة ايران ضد الأمن القومي العربي عموماً والسعودي خصوصاً، وتثبيت التزام الشرعية اللبنانية بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة الوثقى به، ثم تبني منطق الحياد أو النأي بالنفس والبلد عن معارك الخارج وحروبه ومصائبه، وغير ذلك من خطوات عاجلة وراهنة أبرزها التصدي الجدّي والفعلي لمصيبة تحويل لبنان الى حاضنة لانتاج المخدرات وتصديرها الى كل مكان والى دول الخليج العربي عموماً!

أسوأ ما يمكن أن يصيب لبنان بأضرار اضافية كبيرة وجسيمة، هو أن يسيء البعض فيه، وتحديداً في المستويات الرسمية تقدير الموقف المستجد، وأن يستأنف عادة قول الشيء وممارسة نقيضه، أو محاولة التذاكي باعتماد اللغو البلاغي والكلامي من دون ترجمة الالتزام على الأرض، أو الأخطر من ذلك: تفسير التطور السعودي على غير حقيقته أو اعتباره دلالة ضعف أو تراجع، والاستطراد بعد ذلك في سياسات وحسابات قد تكون مدمرة أكثر من تلك التي أوصلت لبنان الى الهاوية والكارثة!

لبنان القادر والمقتدر والمعافى هو زبدة أهداف السعودية ومنتهى الرجاء عندها، على عكس ايران التي تجد في انهياره وانكساره، فرصة لها ولمشاريعها الخاصة.

شارك المقال