تعادل أطراف المعركة القضائية – المصرفية يُبقيها مفتوحة… حتى الانتخابات

وليد شقير
وليد شقير

أسفرت المعركة المتعددة الجوانب والأوجه، المتعلقة بالقطاع المصرفي ومصرف لبنان بين الرئاسة الأولى وسائر الفرقاء المعنيين، عن تعادل بين هؤلاء، في انتظار جولة جديدة تضيف إلى أحوال اللبنانيين التعيسة، مأساة جديدة في ظل غياب التمييز بين إعادة هيكلة أو تنظيم القطاع المصرفي، من ضمن خطة تضعها السلطة السياسية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وبين دفعه نحو الهاوية التي يقف عند حافتها.

وإذا لم يحصل تطور مفاجئ يؤدي بجمعية المصارف إلى العودة عن قرار الإضراب “التحذيري”، الإثنين والثلاثاء المقبلين، فإن توقف هذه المصارف عن العمل يومين سيكون نموذجاً لما يمكن أن يحدثه شلل هذا القطاع في الوضع الاقتصادي والمالي الشديد الصعوبة. فحتى العمليات البسيطة من سحوبات تقنَّن على المودع للحصول على قسط من ماله لتدبر أموره الحياتية اليومية، والمشكو من القيود التي يفرضها المصرفيون، سيكون متعذراً القيام بها بسبب الإضراب. وهو أمر يذكّر بالأثر الكارثي لإقفال المصارف في تشرين 2019 أسبوعين، إذ جرى التأسيس لإدارة عشوائية للأزمة ما زالت مستمرة حتى اليوم، في وقت كان يفترض صدور قانون الكابيتال كونترول في حينه لتنظيم سقوف السحوبات للأفراد، ومقاييسها تبعاً للحاجات إلى الاستيراد والعمليات التجارية المرتبطة بانتظام تأمين المواد الأساسية للبنانيين، بالنسبة إلى الشركات…

المعركة التي شهدناها، تحت عناوين عدة أبرزها استعادة المودعين أموالهم المحجوزة في المصارف منذ تشرين 2019، متفرعة إلى معارك عدة: المعركة بين بعض القضاء وبين المصارف وحاكمية مصرف لبنان، وصولاً إلى معركة تغيير الحاكم التي لن يتراجع عنها الرئيس ميشال عون طالما بقي في القصر الرئاسي. يضاف إليها المعركة بين أركان السلطة، أي بين رئاستي الجمهورية والحكومة حول التدابير القضائية في حق المصارف. ناهيك عن المعركة الخافتة بين القضاء نفسه حول أصول وقانونية وصلاحية فتح الملفات التي فجرت الأزمة في الآونة الأخيرة، بالتدابير التي قررتها النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، المعروف عنها بأنها موالية للرئيس عون، وهي لا تخفي ذلك إذ اعتبرته “القاضي الأول” في الجمهورية، حين طلب منها المدعي العام التمييزي التنحي عن بعض الملفات المالية، ومنها ملف ملاحقة شركة “مكتف” الذي عانى صاحبها ناشر جريدة “نداء الوطن” الرجل الوديع والمستقيم ميشال مكتف، ما عاناه جراء الملاحقة الجائرة في مسألة تحويل الأموال إلى الخارج. في حينها، أوحت القاضية عون أنها لا تأتمر إلا بأمر رئيس الجمهورية بكلامها. في حينه رفضت القاضية تبلغ قرار سحب الملفات منها…

تظلل هذه المعارك كافة المعركة الانتخابية، التي كشف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في معرض احتجاجه على التدابير القضائية ضد المصارف، بقوله إن هناك “محاولات لتوظيف هذا التوتر في الحملات الانتخابية”.

كيف حصل التعادل بين فرقاء الأزمة التي تكاد تذهب بلبنان إلى جحيم جديد، عنوانه ضمان استعادة المودعين أموالهم، في وقت حجة المصارف أنها لا تملك المال الكافي، وأنها تنتظر خطة الحكومة للتعافي الاقتصادي والمالي، وقانون الكابيتال كونترول من أجل تنظيم حصول زبائنها على أموالهم على مراحل؟

ميقاتي استطاع بعد احتجاجه العلني والشديد اللهجة ضد الإجراءات في حق المصارف برفضه ” الشعبوية والبوليسية في مسار التحقيقات” وقوله إن “هناك طريقة استعراضية وبوليسية وعشوائية وانفعالية لا تمت بصلة إلى القضاء، في مقاربة ملف الحقوق” (للمودعين) أن يعطي لمجلس الوزراء الحق في بحث الأزمة، فاجتمع الأخير وناقش أبعادها على الرغم من اختلاف الآراء داخله، بين مؤيد لوضع حد لتصاعد الأزمة وإضراب المصارف، وبين رافض لتدخل السلطة السياسية في القضاء، وبين معترض على أن تظهر الحكومة أنها منحازة إلى المصارف مقابل حقوق المودعين. ودافع ميقاتي عن موقفه مؤكداً أن كل ما يجري تحضيره من خطة مع صندوق النقد عماده استعادة حقوق المودعين. ومع إصرار جميع فرقاء الأزمة على عدم التدخل في القضاء، فإن خطوة ميقاتي عقد مجلس الوزراء شكلت ضغطاً مقابلاً لضغط الفريق الرئاسي على القضاء في المعركة التي يخوضها.

وهذا ما سمح لميقاتي أن يقول إثر انتهاء جلسة مجلس الوزراء بعد ظهر السبت: “أؤكد حرصي وحرص مجلس الوزراء على استقلالية السلطة القضائية وعدم التدخل في الشؤون القضائية احتراما لمبدأ فصل السلطات. وبالتوازي، وانطلاقا من مسؤولية الحكومة في رسم السياسة العامة في البلاد، وانطلاقا من مبدأ التعاون بين السلطات وتوازنها وتكاملها وتعاونها، وحرصا منا على استقرار الأوضاع من النواحي كافة، طلب المجلس بأن يأخذ القانون مجراه من دون أي تمييز أو استنسابية، وأن تتخذ المبادرة لمعالجة الأوضاع القضائية وفقا للأصول وحسب الصلاحية التي نصت عليها القوانين المرعية الإجراء، وذلك من قبل اركان السلطة القضائية، كل حسب اختصاصه، وبشكل يحفظ حقوق الجميع، وفي طليعتها حقوق المودعين”. وأعلن تجديد “تكليف وزير العدل وضع رؤية لمعالجة الأوضاع القضائية ومعالجة مكامن أي خلل قد يعتريها وعرضها على مجلس الوزراء”.

أما الرئيس عون الذي فضل عقد مجلس الوزراء، حين أصر ميقاتي على ذلك لمعالجة الأزمة، في السراي الحكومي بدلاً من قصر بعبدا، “بهدف إبعاد شبهة تدخله كرأس للسلطة السياسية فقد ترك لوزير العدل هنري خوري، الموالي له أن يقترح على ميقاتي عدم استدعاء قادة السلطة القضائية، رئيس مجلس القضاء الأعلى، مدعي عام التمييز ورئيس التفتيش القضائي، ليقتصر البحث بالأمر بين الوزراء، على أن يتولى هو نقل الأجواء إلى كبار القضاة ليتولوا المعالجة وفق الأصول القضائية، بدلاً من أن يظهر الأمر على أنهم خضعوا لطلب ما من السلطة السياسية… وهو الأمر الذي سمح لعون بأن يقول بعد الجلسة، إنه أبدى ارتياحه للموقف الذي صدر عن مجلس الوزراء في ما خص الحرص على استقلالية السلطة القضائية، وعدم التدخل في الشؤون القضائية احتراماً لمبدأ فصل السلطات، على أن يأخذ القانون مجراه من دون أي تمييز او استنسابية، وحفظ حقوق الجميع وفي مقدمهم حقوق المودعين”.

وفيما خرج فريقا السلطة المختلفين في الموقف والتوجهات، سواء حيال الوضع المصرفي أو القضاء، يرددان العبارات عينها، فإن ما يضمره كل منهما مخالف تماماً لما يقولان.

بقيت رموز السلطة القضائية بمنأى عن اتهامهم بالخضوع لتدخل السلطة السياسية، وإن كان بعضهم يعتبر أن القاضية غادة عون تجنح نحو التصرف وفق هواها االسياسي. وقضى واجب التحفظ القضائي أن يترك لكبار القضاة إخراج البلد من هذه الأزمة (إذا استطاعوا).

ماذا عن المصارف؟ لم تعدل الأخيرة موقفها من الإضراب العام حتى ليل السبت في انتظار معرفة الإجراءات التي ستتخذ للعودة عن قرارات القاضية عون بمنع سفر رؤساء وأعضاء مجالس إدارة ومدراء خمسة منها وحجز أملاكهم والمؤسسات التي يتولون مسؤوليتها، وتوقيف شقيق حاكم مصر لبنان رجا سلامة، وإصدار مذكرة جلب في حق الحاكم نفسه، والحجز من قبل قاضية أخرى على خزنات وموجودات فرعين لمصرف سادس…

بقاء النتيجة معلقة قد يعيد فتح المعركة مجدداً، في ظل توقعات بأن تتصاعد المعركة القضائية المصرفية كلما اقتربت الانتخابات.

شارك المقال