ثورة السوريين!

اكرم البني
اكرم البني

يؤرخ السوريون في مثل هذه الأيام مرور احدى عشرة سنة على ثورتهم ضد نظام القهر والظلم والفساد، الثورة التي جاءت مفاجئة للكثيرين الذين كانوا يرون أن قيام حراك شعبي واسع في سوريا هو صعب وعسير إن لم يكن من سابع المستحيلات، وتقف دونه سدود ومعوقات كثيرة، أهمها الاستبداد المديد الذي كمّ أفواه الناس وأخضعهم لتربية وتعبئة ايديولوجيتين لتدجينهم ومنعهم من تداول أية أفكار أو رغبات في التغيير.

نعم، كان موضع شك كبير أن تتكرر ثورات الربيع العربي في سوريا، بلد الاستقرار الأمني والممانعة والمقاومة، فكيف الحال حين يكره الناس على اجتراح تمردهم ورفضهم للواقع القائم من رحم منظومة تحكمها الشعارات القومية ومواجهة المخططات الامبريالية والصهيونية، وتغذيها الدعاية الرسمية بأن كل من يناهض الحكم هو متآمر ومندس ويرتبط بأجندة خارجية؟ ولعل ما أثار الكثير من الاستغراب نجاح ثورة السوريين، وبزمن قياسي، في فضح زيف تلك الدعايات والادعاءات الوطنية للحزب الحاكم وجبهته الذليلة، وتعرية سلطة لا يهمها من السيادة والاستقلال وشعارات الممانعة سوى ما يضمن امتيازاتها وفسادها واستمرارها في الحكم، وتالياً فضح كيف استخدم جيش “المقاومة والصمود والتصدي” لتدمير المدن والأرياف وسحق حيوات البشر وأحلامهم، وكيف استسهل أهل الحكم تسليم قرار الوطن السيادي لقوى خارجية جرى الاستقواء بها، كروسيا وإيران وتوابعهما!.

ثار الناس البسطاء يحدوهم أمل كبير في أن تستجيب السلطة لمطالبهم، كانت عيونهم ترنو الى ما حققته التظاهرات الشعبية وحشود ساحات التحرير والتغيير في تونس ومصر واليمن، فأظهروا حماسة قل نظيرها للحفاظ على سلمية احتجاجاتهم وتواترها، لم يكن في حساباتهم أن تصل الأمور بهم إلى ما وصلت اليه، وأن تفوق شدة العنف توقعاتهم وكذلك سياسة سلطوية بدت كأنها مبيتة أو محضرة مسبقاً لتحويل الصراع من صراع سياسي وسلمي إلى صراع مسلح تشحنه الغرائز والاستفزازات الطائفية، لتبدأ محنتهم مع نظام يزدري السياسة ولا يقبل تقديم التنازلات أو أية مساومة، وتتصرف أركانه كأنها في معركة وجود أو لا وجود، وأن ليس من رادع يردعها في توظيف مختلف أدوات القهر والفتك حتى آخر الشوط.

والنتيجة، عنف منفلت أمعن تخريباً وتدميراً في حيوات الناس وممتلكاتهم، معرضاً، حتى الآن، أكثر من ثلثي السوريين لأضرار وأذيات تتعدد أشكالها، مئات الآلاف من القتلى ومثلهم من الجرحى والمشوهين، وتفوقهم أعداد المفقودين والمعتقلين ثم أضعاف مضاعفة من الهاربين نزوحاً داخلياً إلى أماكن أقل عنفاً أو لجوءاً إلى بلدان الجوار وأوروبا، ناهيك عن الملايين الذين باتوا اليوم بلا مأوى وفي حالة قهر وعوز شديدين وقد فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون. وتكتمل الصورة المأساوية بما خلفه العنف المفرط والاستفزازات الطائفية من تشوهات وانقسامات في المجتمع، ومن شحن العصبيات وروح التنابذ والنزاع وتشجيع عودة كل مكون اجتماعي إلى أصوله القومية أو الدينية أو الطائفية كي يضمن بعضاً من الحماية والوجود الآمن، ما يهدد النسيج البشري المتعايش منذ مئات السنين بالانشطار إلى هويات ممزقة وإلى صراعات من طبيعة إقصائية ستترك آثاراً مريعة على وجود الوطن ووحدة الدولة والشعب.

ربما كان من سوء حظ ثورة السوريين أن تنطلق وتنمو وكأنها تواجه مصيرها وحيدة، فعلى الرغم من تعاطف مختلف الشعوب مع مشاهد الدمار والضحايا وحرج السياسات الرسمية للحكومات الدولية والعربية من عنف سلطوي مفرط وغير مسبوق، لم ترق مواقف معظم الدول إلى شدة ما يكابده السوريون، وآثروا المراوحة بين السلبية والتردد، ربما لأن غالبيتهم تخشى التداعيات التي سوف يخلقها بناء الوطن الديموقراطي في سوريا على أنظمتهم ومصالحهم، وربما لعدم ثقتهم بفرصة السوريين في النجاح وتحسبهم من قدرة نظام مجرّب أمنياً ومدجج بالسلاح والتحالفات على هزيمتهم.

وأيضاً، ربما كان قدر ثورة السوريين أن تولد من دون تخطيط مسبق، بلا مرجعية سياسية أو حزبية أو رموز تاريخية تقودها، بحيث لم يكن لأحد دور في نشأتها سوى عزم شباب منتفض، تأثراً بشباب تونس ومصر، ضد استشراء الحرمان والقهر والفساد والتمييز، وبدأ منذ اللحظات الأولى يصارع، وهو المتوجس من طبيعة السلطة الدموية، شتى محاولات جره إلى السلاح أو إلى الأتون الطائفي ويجاهد لتمثل شعاري الحرية والكرامة وللحفاظ على الوجه الوطني العريض العابر للمذاهب والأديان والقوميات، لكن، وللأسف لم يكلل هذا الخيار بالنجاح في الحفاظ على سلامة قيم الثورة وأفكارها وشعاراتها، إن بسبب نجاح النظام في تشويهه ودفعه، باستفزازاته المفرطة بالعنف والطائفية نحو العنف المضاد، مسهلاً للدخلاء الارهابيين والمتشددين الاسلامويين، الذين أطلق سراحهم عامداً من سجونهم، كي ينالوا من سلمية الحراك الشعبي، وعزز هذا المسار الخاطئ والخطير، انسداد الأفق واستمرار العجز الأممي عن التدخل لوقف العنف وفرض حل سياسي، والأهم إخفاق المجالس والائتلافات المعارضة على تنوعها، في تنسيق نشاطاتها وتجاوز أمراضها وتشتتها!.

فماذا يمكن أن يقال حين يتنامى شعور لدى الشباب الثائر بأن التظاهرات بالصدور العارية، عاجزة عن هز أركان النظام، خاصة حين يتمكن القتل والاعتقال والتهجير من إزاحة عدد غير قليل من رموزهم القديمة التي عرفت بنزعتها السلمية؟ وماذا يمكن أن يقال حين يشعر الشباب الثائر بأن ثمة ما يشبه التواطؤ العام للنيل من تلك الرموز التي كان استمرارها يغذي فرصتهم في مقارعة الدخلاء والتمسك بقيم ثورتهم وشعاراتها ومسارها السلمي، كمشعل تمو، غياث مطر، يحيى الشربجي، خليل معتوق، عبد العزيز الخير، باسل شحادة، فائق المير، يوسف الجادر، خلدون زين الدين، ناجي الجرف، رزان زيتونة وسميرة خليل ووائل حمادي وناظم حماد وغيرهم كثيرون؟

مع مرور احدى عشرة سنة على الثورة السورية، ثمة أسئلة كثيرة باتت تثار اليوم بحثاً عن أسباب النتيجة المؤلمة التي وصل اليها السوريون وثورتهم النبيلة، هل أحكمت لغة العنف، الطوق على حلم التغيير الديموقراطي وبتنا نعيش مناخ هزيمته؟ هل الأسباب تعود الى تعنت نظام لا يهمه سوى الاستمرار في السلطة، رفض تقديم أية تنازلات سياسية واستجر مختلف أشكال الدعم الخارجي؟ أم يتعلق السبب بما يصح تسميته “مؤامرة دولية وإقليمية مبيتة” شارك الجميع فيها كي تصل ثورة السوريين إلى ذلك المستنقع الدامي، وضمنهم يتحمل من يحلو لهم تسمية أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري، المسؤولية الرئيسة، من خلال صمتهم وسلبيتهم وعجزهم عن وقف العنف وحماية المدنيين؟ أم يمكن اعتبار المسؤولية الأساس تقع على عاتق المعارضة السورية، إن لجهة تأخرها وعجزها عن قيادة الحراك الشعبي الواسع ومده بالخبرة والمعرفة، وإن لجهة استهتارها بالدور المتنامي لجماعات دينية متطرفة نجحت في خطف الثورة عسكرياً ثم سياسياً وشعبياً؟

بعد أحد عشر عاماً لا يكفي تعريف ثورة السوريين بشعاري الحرية والكرامة أو بصور الاستبسال المذهل والمقارعة المكلفة بين شعب ينتفض لنيل حقوقه ونظام لم يتوان عن استخدام أشنع وسائل القهر للحفاظ على موقعه وامتيازاته، أو بما حل بها من نكسات وانكسارات وتشوهات مع تقدم منطق العنف وتصدر الفصائل الاسلاموية المشهد، بل بما كرّسته من رصيد معرفي ومفاهيم وقيم جديدة، ولنقل ثقافة بديلة تنقض كل ما هو استبدادي ووصائي، تستمد من الوعي الديموقراطي وحقوق الإنسان جذورها، وتؤسس لفصل الدين عن الدولة واستلهام الميراث التقدمي للاسلام وتفعيله بما يتناسب وروح العصر، خاصة وقد أكدت حصيلة هذه السنوات الصورة النمطية للاسلام السياسي الذي لا يهمه سوى تسخير الدين لقهر وإكراه البشر وجعلهم أدوات عمياء لتطبيق رؤيته المتطرفة للشريعة الإسلامية.

يخطئ من يعتقد أن الثورة لا يمكن أن تهزم أو تشوه وإن هزمت لا تعود ثورة أو لا تستحق هذا الاسم، ففي التاريخ أمثلة كثيرة عن ثورات حقيقية ونبيلة ومشروعة هزمت مؤقتاً، والأسوأ أن تلي الهزيمة مرحلة دموية وسوداء تقاسي فيها الجموع الثائرة الأمرين قبل أن تتمثل الدروس وتنهض من جديد، فتاريخ نضال الشعوب لا يكاد ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر.

شارك المقال