روبرت مالي شخصياً!

علي نون
علي نون

حسمت أمرها واشنطن على ما يبدو، وقررت عدم رفع الحرس الثوري الايراني من لائحة الارهاب وابقاءه خاضعاً لمنظومة العقوبات الأميركية غير المتصلة بالملف النووي.

وليس سوى “رجل” ايران في الادارة الأميركية، مبعوثها المختص بشؤونها روبرت مالي، من أذاع القرار على هامش مشاركته في منتدى الدوحة، واضعاً بذلك حداً لتذبذب أربك الجميع، الحلفاء والأعداء على حد سواء، وكاد أن يطيح بثقة الأولين من دون أن يربح جميلة الآخرين!

ودلالة اعلان الموقف الأميركي على لسان روبرت مالي توازي القرار نفسه… كأن واشنطن تقول لطهران إن المراجعة تمت وانتهت! وإن الرهان على تغييرها لم يعد دليل حصافة ولا تبصّر، مثلما انها لا تدلّ على حقيقة حاجة ايران العميقة والأكيدة الى العودة للاتفاق الذي نسفه دونالد ترامب بجرّة قلمه ولم يندم!

وروبرت مالي هو من هو: عرّاب ذلك الاتفاق الذي وُضِع أيام السيء الصيت والذكر باراك أوباما، وأحد أبرز “مرشديه” الى ثقافة استيعاب إيران، وأول المنظّرين لاستراتيجية الاحتواء الخبيثة المبنية على الفصل بين “الارهاب” الاسلامي العربي، “والاجتهاد” الإسلامي الايراني!

واعتبار الأول جزء عضوي من النص الديني فيما الثاني حمّال أوجه كثيرة منها القومي ومنها التاريخي ومنها الأوزان والأحجام ومنها العداء المضمر والمعلن للعرب إرثاً وثقافة وقيماً وتاريخاً!

وأثبتت الأيام، أن مسألة استيعاب المشروع النووي الايراني، على أهميتها وجدّيتها، لم تكن سوى ستار لتواطؤ ادارة أوباما مع طهران على المجموع العربي عموماً والخليجي خصوصاً وفق مقايضة بالغة اللؤم والسوء والخبث والظلم: تأخذ واشنطن تعليقاً مؤقتاً لمشروع نووي غير مكتمل من طهران، و”تعطيها” في المقابل حرية السعي التوسعي والتخريبي والتدميري في جوارها وتسهيل سعيها الى دور قطبي في عموم ديار العرب والمسلمين! أي أن أوباما أخذ ما هو غير موجود وأعطى ما ليس له ولا يملكه… والذي هو إستقرار وأمن ورخاء وسيادة دول الجوار الايراني المنكوبة بتلك الجيرة!

وما أثبتته الأيام (والأيام أحكام وحقائق ووقائع دامغة!) هو أن طهران أخذت الإتفاق النووي ورفع العقوبات عنها وسرحت بالطول والعرض في استعراض سياساتها التوسعية والتمددية والتخريبية، وراحت في الغلو الى إستئناف بناء مشروعها القطبي الذي لم يعنِ سوى تدمير الدول الوطنية السيادية في اليمن والعراق ولبنان وإكمال الفتك بثورة السوريين على نظام البعث الأسدي، ثم متابعة السعي المستدام الى استهداف دول الخليج العربي عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً!

وليس خافياً الاّ لمن لا يريد أن يرى، أن ايران هذه لم تجد “فرصة” واحدة لمواجهة إسرائيل طوال السنوات الماضية على الرغم من المعارك الكبرى التي انخرطت بها ضد غزّة ولبنان… وعلى الرغم من عشرات بل مئات الغارات الجوية التي شنتها على الجماعات غير الايرانية التابعة للحرس الثوري في سوريا والعراق وربما في غيرهما! وكأن حدود التوسع الايراني (المسموح به وفق تلك المقايضة الخبيثة مع أوباما) تقف عند حدود “الكيان الصهيوني الغاصب” ولا تتخطاها!!

قطع دونالد ترامب ذلك المسار جزئياً لكن ادارة جو بايدن كادت أن تعيد وصل ما انقطع… وبرعونة مضافة! وبما هدد سياق العلاقات الإستراتيجية مع دول الخليج العربي تحديداً انطلاقاً من حسابات أميركية (ديموقراطية) داخلية ضيقة! وكادت إدارة البيت الأبيض أن ترتكب مجدداً خطأً إستراتيجياً كبيراً في حق أمن المنطقة العربية وشعوب الشرق الأوسط الكبير بالإجمال عندما أعطت الايرانيين إشارات مبكرة إلى هدفها بإعادة إحياء الإتفاق الموؤد من دون تتماته الحيوية… أي من دون البحث في “الموضوع” الفعلي والحقيقي والملموس والمنحوس الذي تدلّ عليه واليه سياسة التوسع التخريبي في الجوار العربي والاسلامي التي يشرف عليها الحرس الثوري ويرعاها من جهة، والصواريخ البالستية المستنسخة عن نظيراتها الكورية الشمالية من جهة أخرى! وكانت أخطر تلك الاشارات هي عملية رفع الجماعة الحوثية اليمنية من لائحة الارهاب الأميركية كبادرة “حسن نية” مغرية لإيران وكدفعة مسبقة على الحساب المفتوح بين الطرفين تحت شمّاعة الإتفاق النووي!

والنتيجة (التي أثبتتها الأيام!) أن ذلك الإجراء لم يخفف من غلواء تلك الجماعة ولا من تبعيتها العمياء لأجندة صاحب الشأن الايراني بل العكس تماماً هو الذي حصل ولا يزال يحصل حتى الآن! وليست الهجمات العدوانية الأخيرة على الأهداف المدنية والبنى التحتية السعودية سوى ترجمة لذلك! والأمر يعني أن واشنطن كانت تغامر فعلياً بأمن الخليج العربي، والطاقة ومنابعها وخطوطها ومسارها وبناها التحتية من أجل إرضاء إيران مجدداً!

عاملان أساسيان سلبيان أنتجا تلك الخلاصة الإيجابية التي أعلنها روبرت مالي من الدوحة: الاول هو الغزو الروسي لأوكرانيا والدروس المستفادة منه لجهة خطورة التنازل أمام الطغاة وأصحاب المشاريع الخارجية التوسعية، والثاني هو ايران نفسها! التي وبواسطة الأداة الحوثية والافراط في استخدامها، أعادت تسليط الضوء على مخاطر أي رفع للعقوبات عن الحرس الثوري بما في ذلك إخراجه من لائحة الارهاب الأميركية… وما فعلته ايران بواسطة الجماعة الحوثية لجهة استهداف منشآت “أرامكو” السعودية هو ضرب تحت الزنار اذا صحّ التعبير: واشنطن تقود حرباً كبرى ضد الغزو الروسي من ضمنها معركة تثبيت أسعار النفط والغاز ومنعها من الصعود الصاروخي، وبدء مسار طويل لتهيئة الأوروبيين للتخلي عن الاعتماد المفرط على الغاز الآتي من عند فلاديمير بوتين، فإذ بإيران تدخل على الخط لمحاولة انتهاز الفرصة والقول انها موجودة في حسابات سوق النفط اذا رفعت العقوبات عنها… لكن الأسلوب الذي اعتمدته ارتد عليها سلباً، وأعاد التركيز على خطورة أدائها وعدوانيتها ومشروعها التخريبي وغلوائها المؤدلج!

ما لم تستوعبه إيران هو أن إبتزاز واشنطن في خضم مواجهة كبرى وغير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، لم يعد يسري أو ينفع معها… هذا أداء قديم في عالم متحول وحساباته مختلفة تماماً!

قد يفترض البعض، ويكون محقاً في افتراضه، أن ايران ستذهب الى التصعيد رداً على الموقف الأميركي من قصة الحرس الثوري وأن ذلك سينسف مفاوضات فيينا، لكن الواضح (راهناً)، هو أن واشنطن اختارت المخاطرة بعدم الاتفاق في فيينا مع إبقاء العقوبات على ايران وحرسها الثوري، بدلاً من اتفاق يبقي ذلك الحرس على أدائه المدمّر والمشتت للانتباه المطلوب حصراً على بوتين ومخاطره!

شارك المقال