لم تتفق الأوساط السياسية اللبنانية على خلاصة واحدة: هل أن “العودة الخليجية” التدريجية المرتقبة الى لبنان ثمرة التشاور والتنسيق بين السعودية وفرنسا وما استتبعه من “تعهّدات” قدمها رئيس الحكومة؟ أم أنها نتيجة التداعيات المتوقّعة لحرب أوكرانيا بمعنى اتجاه الخليج “شرقاً” نحو روسيا، مما استوجب “التطبيع” مع نظام بشار الأسد الواقع تحت الوصاية الروسية – الايرانية؟ أم أنها تحوّطاً لما بعد الاتفاق النووي الجديد وما يحمله من تنازلات أميركية تمهّد لصيغةٍ ما من الاعتراف بنفوذ إيران وتوسّعاتها الميليشياوية؟.
ربما يمكن الربط بين كل هذه العناصر والتحوّلات واسقاطها على الوضع الداخلي، فاللبنانيون قد يبالغون لكنهم لا يخطئون في أن قوى خارجية تدير الشؤون العليا لبلدهم، ثم أنهم منفّذون لإرادة الخارج وغير مؤثّرين فيها، بدليل أنهم غائبون عن اللقاءات الإقليمية والدولية (باريس، شرم الشيخ، عمّان…) التي تحاول تحديد التوجهات المقبلة للمنطقة عموماً وليس بالنسبة الى لبنان خصوصاً. زيارة وزير الخارجية الإيراني لدمشق ثم بيروت أرادتها طهران لتأكيد أن البلدين باقيان تحت نفوذها ولن يكونا موضع تجاذب إقليمي أيّاً تكن تطوّرات حرب أوكرانيا وانعكاساتها على الحضور الروسي في المنطقة. وكما كان هناك بعدٌ اقتصادي لمحادثات حسين أمير عبداللهيان في دمشق، فإنه حرص أيضاً على طرح مساهمة إيران في حلحلة مشكلة الكهرباء في لبنان ولم يشترط أي إصلاحات مسبقة.
أي أن طهران باشرت التحضير لخروجها الوشيك من نفق العقوبات. وليس مستبعداً أن يشكّل ذلك أحد محفّزات “العودة الخليجية” الى لبنان، لكن هل يُراد لها أن تكون ديبلوماسية شكلية أم سياسية مؤثّرة؟ ليس واضحاً بعد، إذ كانت هناك شروط للعودة الديبلوماسية (المبادرة الكويتية) ولا يمكن اعتبار أن تعهدات رئيس الحكومة تلبيها، كما كانت هناك شروط سياسية تتعلّق كلّها بالسلوك الداخلي والإقليمي لـ”حزب إيران”. في أي حال، كان لا بدّ من هذه العودة، لأن الاهتمام الخليجي بلبنان يبقى أمراً حيوياً، حتى لو استبقه عبد اللهيان ملوّحاً بأن طهران تسبق الجميع بأشواط، سواء في تنسيقها العميق المتقدّم مع موسكو (وبكين)، أو في التحكّم بالنظام الأسدي الذي نجحت في تثبيته وعرضه لإعادة التأهيل، وكذلك النظام “العوني” الذي – إذا اقتضت مصلحتها – لن تتردّد في التمديد له إما بتأجيل الانتخابات أو بفرض انتخاب جبران باسيل رئيساً.
لم يتطلّب الأمر أي عناء، فرسالة زيارة ميشال عون للفاتيكان لا تُقرأ في التفاصيل، بل من العنوان: كانت من أجل جبران و”حزب إيران”، لا من أجل لبنان. كما في كل المحطات السابقة حين لم يكن الجنرال مهتمّاً بالبلد مقدار اهتمامه بالوصول الى رئاسة الجمهورية، كذلك يبدو في المحطة الأخيرة هاجساً بالبقاء فيها بأي ذريعة، أو عبر “توريث” الكرسي لصهره. ولم يعد سرّاً أن باسيل كان “الرئيس الظلّ” أو الرئيس التنفيذي خلال الأعوام الستة العجاف، التي تمكّن “حزب إيران/ حزب الله” خلالها من الاستحواذ على الدولة وقرارها، ولا بد لـ “الحزب” أن يكافئه.
وعلى الرغم من أن “الحزب” يتظاهر بأنه لم يحسم أمره بالنسبة الى رئاسة “ما بعد عون”، فإنه لا يستطيع أن يتجاهل خدمات جبران في كل الأعمال القذرة، من اختراق سائر الطوائف الى افتعال الفتن الطائفية، ومن التلاعب بالقضاء الى العبث بالسياسة الخارجية، الى الفساد العلني الوقح الذي رشّحه لنيل العقوبات الأميركية. ناضل جبران بإقدام وتفانٍ ليجد فيه حسن نصرالله أفضل من يرئّسه كي يُعاقب به كلّ اللبنانيين.
وكما أن عون وباسيل صارا واحداً، فإن التخريجة الحالية تقترح أن رَجُلَي المرحلة هما نصرالله وباسيل وأنهما صارا واحداً أيضاً. أي مسترئس آخر لا يستطيع أن يبهدل الرئاسة والجمهورية كما يستطيع جبران، وأي مسترئس آخر لا يستطيع مثل جبران منافسة سيّده نصرالله على النفور العام منه. ثمّة تماهٍ الى حدّ كبير بين الوليّ الفقيه المحلي والصهر المعجزة. أليس أن الأول في حاجة الى الغطاء “المسيحي” الذي يوفّره له الآخر. أليس أن الثاني قادر على إرسال عمّه الجنرال كي يبيع الى الحبر الأعظم خرافة “حلف الأقليات” ومقولة أن “المسيحية في لبنان ليست في خطر (مضمرةً أن الفضل في ذلك يعود الى إيران و”حزبها”). الواقع أن جميع اللبنانيين في خطر لأن وطنهم في خطر، بدليل النزف اليومي الذي يرحّل الشباب من كل الطوائف بعدما أصبح الحاضر والمستقبل رهينتين لدى “حزب إيران”.
بالنسبة الى اعلام الممانعة، نجح عون في مهمته، إذ يبدو أن صانعي القرار في الفاتيكان يميلون الى الأخذ بنصائح باريس التي لا ترى شيئاً يمكن أن يستقيم في لبنان ما لم يكن بمباركة “حزب إيران” ومشاركته، وبالتالي ينبغي التعامل معه سواء ليبقى هناك دور لفرنسا والفاتيكان وغيرهما، أو لجذبه الى التسويات الممكنة بدلاً من مقاطعته كما تفعل الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، هناك البيانات والمواقف الرسمية والعلنية التي تشتريها الأطراف اللبنانية على أنها حقيقية، وهناك التوصيات العملية التي يمكن أن تذهب بانتهازيتها الى حدّ التناقض مع ما هو معلن. هذا لا يعني أن المواقف الأميركية لا تزال وحدها “مبدئية”، فهي موضوعة الآن موضع مساومة على محك الاتفاق النووي الجديد والتنازلات المتوقّعة لإيران، كذلك على محك الحرب في أوكرانيا والتغييرات التي تحدثها في أجواء مفاوضات فيينا. إذ لم تعد إدارة الأزمة مع إيران على الصرامة التي كانت عليها في واشنطن قبل الحدث الاوكراني، فهناك توجّه الى استمالة طهران بتلبية شروطها مقابل تعويض النقص في أسواق النفط والغاز.