قرار غريب للبناني وحيد

محمد علي فرحات

الجماعات اللبنانية تتبادل الخوف والتخويف في سياق الاستعداد للانتخابات النيابية، فهي قد تحصل وقد لا تحصل في أجواء اللايقين وإمكان العجز التقني عن إجرائها أو عن إتمام مفاعيلها بسبب نقص العدة والعديد.

لا أصوات واضحة تطلب المقاطعة، حتى في أجواء تيار “المستقبل” بثقله الانتخابي الذي يعترف به الخصم قبل الحليف. يكتفي أهل “المستقبل” بالاستجابة لطلب الرئيس سعد الحريري بأن يمتنعوا عن الترشح بأنفسهم أو تزكية مرشحين آخرين، ولا يطلبون من عموم الناس صراحة الاضراب عن ممارسة حقهم الانتخابي.

لبنان على قارعة الأمم. تدار أموره من السفارات الواضحة وتلك القابعة في العتمة. والصعود الى مرتبة الزعامة يتطلب إتقان اثارة الضغائن والحزازات ونشر الغسيل الوسخ، مثلما تفعل الخادمات المعرضات للطرد إذ تكتشفن أن السيدة سقطت في هوة الفقر وصارت مثلهن خادمة، ولكن، لسيد مجهول.

التبرعات العينية لا النقدية، تحملها الطائرات ثم تنقل من المطار الى المطبخ. ومع ذلك الحرص يكتشفون طبيخاً يهرب من بيروت الى دمشق ومن صور الى افريقيا.

الخطب الانتخابية تعلو شيئاً فشيئاً. بروباغاندا ضاجة لا يأبه بها أحد. قال المواطن الشبحي انه يتدرب على عدم السماع فيكفيه احساسه الفظيع بانسداد الطرق. ذلك أن خطب المرشحين ضجة بلا طحن وتفتقد الحدّ الأدنى من الذكاء. انها بلادة الذات المنفوخة والتي تبعث على الضجر.

وينفرد أحد القادة المرشحين بالقول ان انتخابات لائحته واجب وطني وأكثر. لأن خصومه سيعمدون الى التطبيع مع اسرائيل إذا تغلبوا في الانتخابات. كلام كبير يلقى جزافاً ولا يحمل سوى حقيقة وحيدة هي احتقار الناخبين، واعتبار الانتخابات مجرد مناسبة لاهانة المواطن المختلف فكراً وطريقة عيش. هذا الرجل يستند الى شتائم سياسية تعود الى مرحلة الاستبداد العسكري العربي. ليست شتائم بقدر ما كانت اتهامات ظالمة لجماعات بكاملها بأنها عميلة للاستعمار. وقد كانت تطاول كثيرين من اللبنانيين زعامات وأفراداً. لا فكرة تموت في بلادنا، وها هو الاسلام السياسي يستند الى القومية الشعبوية في نسختيها الناصرية والصدامية. ويقولون انتخابات في لبنان؟

كيف تختار كتل الاسلام السياسي مرشحيها؟ لا أحد يعرف المعيار، وربما لا معيار سوى المزيد من التنميط بحيث تصبح الكتلة شخصاً واحداً مكرراً. هذا النهج ضد التنوع، بدءأً من البيت الأبوي وليس انتهاء بعش الزوجية. حياة نيابية مملة مثل حياة عائلية مملة. الرتابة والتكرار وفقدان الذكاء ودفع المختلفين الى الموت غيظاً أو مغادرة الوطن الى أبعد نقطة في العالم.

كانت الصيغة اللبنانية في ذروة تألقها تقوم على أساس الدولة الضعيفة والوطن القوي. هذا نموذج لبنان الذي كان وهماً فصار مستحيلاً بعدما انفضح الوهم. ثم ما هي قوة الوطن حقاً في هذه الصيغة؟ وما معنى ضعف الدولة هنا؟ هل هو فقدانها وظيفتها لمصلحة فساد يلبس قناع العصبية الطائفية؟

ولكن، الى أين نتجه اذا اقتنعنا بفساد هذه الصيغة لدولة ضعيفة ووطن قوي، أي استحالة حدوثها حقاً واستمرارها؟ وما طبيعة الدولة والوطن في أيدي الطوائف المتناحرة بتناحر زعمائها؟ ومن أين أتى زعماء الطوائف بصفتهم هذه؟ من فساد أو من قيادة في حرب أهلية عمياء؟ ثم: هل تقوى الطائفة حقاً بارتباطها الخارجي أم بحضورها الداخلي الايجابي الذي تقبله الطوائف الأخرى؟

ويبرز السؤال اللبناني الدهري: كيف العبور من المواطن المنتمي الى طائفة نحو المواطن الفرد المنتمي الى وطن؟

يمشي اللبناني وحيداً ويفكر بصوت مسموع، كأنه يدندن أغنية قديمة غير حماسية، بادئاً من الحقيقة الجغرافية التي تمنع انطلاق أي تفكير نحو آفاق رحبة: أنت وعلى حدودك اسرائيل وسوريا. أنت أمام أفق مسدود حقاً. لكن المواطن الماشي وحيداً يصرخ قبل أن يقع مغشياً عليه: لقد قررت احتلال اسرائيل وسوريا.

شارك المقال