7 نيسان!

اكرم البني
اكرم البني

من الطبيعي أن يخفت إلى حد كبير الاحتفاء بذكرى تأسيس حزب البعث السوري في السابع من نيسان من عام /1947/ هذا إن لم تعترض هذه الذكرى شتيمة من هنا ولعنة من هناك على حزب أوصل البلاد إلى هذا الدرك المؤلم من الدمار والضحايا والفساد.

هو الحزب الذي خان الشعارات التي رفعها، وتحول إلى أداة قهر وإفساد بيد عصبة حاكمة، خاصة بعد أن أسقطت هزيمة حزيران عام /1967/ ما كان يتبجح به من مشروعية وطنية وقومية، بينما أكملت رياح الربيع العربي وثورة السوريين، الإجهاز عليه، معلنة نهاية مرحلة طويلة تصدرت فيها الشعارات الوطنية والقومية المشهد، أو معلنة، ربما، بداية تبلور إرهاصات لفكر وطني وقومي جديد غني بعمقه الحضاري وبقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.

هو حزب البعث الذي قام على بنية تكوينية تدّعي الوصاية على المجتمع بينما عملت جاهدة على تغييب دوره يحدوها احتكار السلطة والثروة مستندة الى كتلة ضخمة من البيروقراطية المدنية والعسكرية، ومتوسلة اشاعة الفساد والولاءات المتخلفة للسيطرة على مفاصل الدولة وتحويلها الى ملكية خاصة، ومتوسلة أساساً أساليب القمع والإرهاب لضمان السيطرة، وليس صياغة علاقة صحية مع المجتمع أساسها نيل ثقة الناس لما تقدمه لهم من مكاسب سياسية واقتصادية، واحترامها لحقوقهم وحرياتهم وأمانتها في توزيع عادل للثروة الوطنية ودفع عجلة التنمية الاجتماعية الى الأمام.

هو الحزب الذي قادت سلطته أعنف ثورة مضادة لتحطيم آمال الشعب السوري في التغيير والحرية، واستباحت أشنع وسائل الفتك وأشدها عنفاً وتدميراً للدفاع عن سطوتها وامتيازاتها حتى لو كان الخراب والطوفان، ليغدو أحد وجوه الوفاء لما قدم من تضحيات، هو المسارعة لإطلاق رصاصة الرحمة على حزب البعث وشعاراته الوطنية وتبجحاته القومية في لحظات احتضارهما، والأهم رفضاً لإدمانه اللاعقلانية وتغليب الغرائز والانفعالات على الواقع الملموس والتحليل الموضوعي، ورفضاً للأوهام والادعاءات الفارغة والجذور المريضة الفكرية والبنيوية التي حاول أن يستمد منهما حضوره، والأهم رفضاً لاستمرار دوره كأداة قهر وإذلال لمصلحة نظام ازدرى الشرعية الديموقراطية، وكرس سلطانه بشرعية ديماغوجية لا تهتم بالتأسيس لدولة المواطنة والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان، بل تتوسل شعارات تدّعي الممانعة وتحرير فلسطين وردع المطامع الامبريالية والصهيونية كي توطّد دعائم الاستبداد وتلغي الحريات العامة والتعددية السياسية وتداول السلطة.

هو الحزب الذي دأبت قيادته على تأجيج العصبيات القومية والمذهبية عبر ممارسات مغرقة بالشوفينية واضطهاد الآخر المختلف، ثم توظيف عنفها المفرط واستفزازاتها الطائفية لتنفير البشر من وطنهم ودفعهم للهروب منه بحثاً عن حياة آمنة وكريمة، وهو الحزب “الوطني والقومي” الذي بادرت سلطته لهتك قوتها في مواجهة الأبرياء، ولفتح النار على المبادرات العربية الساعية لمحاصرة تفاقم المحنة السورية واحتوائها، واستجرت لمواجهة شعبها، ما حلا لها من الأطراف الإقليمية والدولية، لتمكّن الأجنبي المعادي للوطن وللأمة العربية وطموحاتهما، كإيران وتركيا وروسيا، من تقرير مصير البلاد والمنطقة.

هو حزب البعث الذي خادعنا أهله بالتخلي دستورياً عن دوره كحزب قائد للدولة والمجتمع، ولم يسمع لهيئاته وكوادره أي صوت مؤثر في الصراع الدائر، بينما احتلت الآلاف المؤلفة من قواعده، خاصة من أبناء الفلاحين والعمال وصغار الكسبة، الصفوف الأولى في الاحتجاجات والمظاهرات ضد فساد السلطة وعنفها المفرط وقدموا أثمن التضحيات، ليصح القول إن الحركات الإسلامية ما كان لها أن تحوز موقعاً وازناً في البلاد لولا أنها كسبت فئات شعبية واسعة فقدت ثقتها بحزب البعث وفكره القومي وشعاراته الوطنية وانسلخت بصورة جماعية عنهما، معتقدة أن الخيار الديني يشكل بديلاً سياسياً وملاذاً روحياً يعينها على مواجهة واقع القهر والاستبداد وأوضاع تنموية ومعيشية مزرية.

والحال، فإن كل ما سبق ليس غريباً أو مفاجئاً بل هو حصيلة طبيعية لانحسار المسألتين الوطنية والقومية لدى السوريين، وتراجع إيمانهم بدورهما كحافز نضالي وتغييري، وقد لمسوا لمس اليد ما آلت إليه أوضاعهم والنتائج السلبية المثيرة للقلق التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب هذين النضالين على ما عداهما وكيف استخدم النظام العقيدة القومية ومعضلة فلسطين والوحدة العربية كشعارات تعبوية لتسويغ الاستبداد وتعزيز سلطانه، وكيف لم يعرها، في المقابل، أي اهتمام عندما استدعت مصالحه والحفاظ على كرسي الحكم، وتوثيق العلاقات مع أطراف إقليمية وعالمية على حساب البعد القومي والسيادة الوطنية.

واستدراكاً، كان أمراً لافتاً غياب المفردات القومية والوطنية في خطاب ثورة السوريين، وأن لا تحظى بالحياة فكرة المؤامرة والترويج الرسمي عن مخطط خارجي ضد ” قلب العروبة النابض” وأن تكون القوى، حتى في صفوف المعارضة، التي لا تزال تتعاطى وفق المنظورين القومي والوطني وشعاراتهما، هي الطرف الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الثوري، أمام تقدم التيارات الاسلامية والليبيرالية وشعارات الحرية والكرامة، وأيضاً كان أمراً لافتاً ابتعاد حزب البعث، كحزب قائد، عن المشهد، فقد غاب دوره وغابت شعاراته، ولم يسمع أي صوت مؤثر لقياداته في إدارة الصراع، حتى المهام النمطية القديمة التي عرفناها تاريخياً عن البعثيين في دفاعهم عن الوضع القائم تحت عناوين حماية الأمة العربية من المطامع الامبريالية والصهيونية، غابت هي أيضاً، امام حضور اصطفافات عصبية مريضة ومتخلفة ودون المستوى الوطني.

صحيح أن المجتمع السوري كان يعتبر من أهم معاقل النضالين الوطني والقومي، وأنجب أبرز منظري الفكر القومي وأكثرهم شهرة، وصحيح أنه لم يتأخر عن تلبية النداء القومي، فشارك مع المجتمع المصري في صنع أول وحدة عربية عرفها التاريخ الحديث عام /1958/، وصحيح أنه لم يتأخر عن مناهضة الاستعمار وبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق الاستقلال ومن أجل مواجهة تمدّد الصهيونية في فلسطين، لكن الصحيح أيضاً إن محنته بدأت منذ أوصل حزب البعث إلى السلطة، ولعل أحد أهم دروس ثورته وما قدمته من تضحيات في مواجهة حزب البعث وشعاراته الوطنية الخادعة وتوجهاته القومية الشوفينية، هو فضح دور الاستبداد والديكتاتورية في تحويل النضال الوطني والفكر القومي إلى شعارات خادعة وإيديولوجية مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري، بما في ذلك تدشين آفاق جديدة لحضورهما، لا تتعلق فقط بمناهضة الأجنبي، ولا بالتاريخ المشترك وروابط اللغة والأرض، ولا بضغط التكتلات الاقتصادية الكبرى على المجتمعات لتجاوز الحلول القطرية، بل بضرورة منح الأولوية لنصرة الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان كطريق لا غنى عنها من اجل احياء بديل حقيقي للمسائل الوطنية والقومية والتنموية وتمكينها في الأرض.

شارك المقال