ورطة أوكرانيا

علي نون
علي نون

ليس هناك (أو هنا)، من هو أخطر من رجل الدولة الذي يتصرف وكأنه صاحب مزرعة… والأخطر من هذا هو أن يكون المذكور مدرّعاً بصلاحيات تمكّنه من التحكّم بأسلحة كثيرة من ضمنها وعلى رأسها تلك الخاصة بالدمار الشامل…

الأولى صعبة من حيث المبدأ والثانية أصعب من حيث الاحتمالات… أي أن يكون صاحب السلطة غير معني بتراتبيتها وبقضائها وقوانينها ويعتبر نفسه فوقها كلها وتحت السماء بقليل. ثم أن يكون ضيّق الخلق والصدر ولا يضع في حسابه أي قيمة لمؤسسات رقابية دستورية أو نقابية أو ذات صلة بالبنى المدنية المألوفة في عالم اليوم، مثل الاعلام أو منظمات حقوق الانسان أو الجمعيات المعنية بمراقبة الحوكمة وفرزها بين رشيدة وجائرة.

وهذا أمر نمطي في بعض عوالم آسيا وأفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية. وبعض تجاربه في دنيا العرب والمسلمين أنتجت كوارث مدمّرة ومعمّرة! من طهران الى بغداد الى طرابلس الغرب الى دمشق وسواها.

الحالة الثانية الأصعب أو الأخطر هي تلك المتصلة بامتلاك ألدولة المعنية أسلحة الدمار الشامل مثلما هو الحال مع روسيا بداية ومع كوريا الشمالية تتمة. والدولتان أدخلتا “المزاج الشعبي” العام، على وسع الكرة الأرضية، في مناخات الاستعداد لاحتمال استخدام القوة الافنائية في حروب تقليدية للمرة الأولى في التاريخ!

عندما قصفت الولايات المتحدة الأميركية اليابان بالقنبلتين النوويتين في العام ١٩٤٥، لم يكن غيرها يملك ذلك السلاح! ولم يكن غيرها يتحكّم بتقنية تصنيعه وانتاجه. والمفارقة كمنت آنذاك في كون عقول الهندسة الفيزيائية النووية التي استندت اليها واشنطن، كانت عقولاً ألمانية بالدرجة الأولى!.

حينها إستخدمت القنبلة على هيروشيما وناغازاكي لإفناء العنصر البشري فيهما لكن من أجل تحقيق هدف “أسمى” هو إنقاذ البشرية من الاستمرار في أشنع حرب واجهتها في كل تاريخها المعلوم! وكانت تلك الضربة الأولى التي أنهت مذبحة الحرب العالمية لكنها فتحت الباب أمام سباق من النوع ذاته بين القوى المنتصرة وتحديداً بين الأميركيين والمعسكر الغربي من جهة والسوفيات والمعسكر الشرقي (الذي ولدته الحرب ذاتها)، من جهة ثانية.

ولم تكن أطول مرحلة سلمية في تاريخ أوروبا أساساً والعالم برمته تالياً، التي امتدت منذ انتهاء الحرب العالمية الى اليوم، سوى نتاج الرعب النووي المتوازن في ضوء وصول الروس الى تقنية التصنيع والانتاج بعد سنوات قليلة من وصول الأميركيين.

كانت الحرب الباردة بديلاً وحيداً عن الحرب النووية أو الافنائية… قاتلت القوى الكبرى بعضها بالواسطة وليس بالمباشر. وعمّرت نفوذها أو قيمها من خلال التدخل في نزاعات وحروب ذاتية الأسباب في مطارح كثيرة، ومفتعلة من طرفي المعسكرين الشرقي والغربي في مطارح أخرى. وأخذت تلك المواجهات أشكالاً متعددة وعناوين متفرقة (حروب أهلية وثورات وانقلابات) لكنها كلها في جملتها لم تخرج عن مندرجات المواجهات العسكرية “التقليدية” أو الكلاسيكية. وحدها أزمة الصواريخ الكوبية في العام ١٩٦٢ كادت أن تخرج عن عاديات مواجهات تلك المرحلة وحروبها ووصلت الى ذروة “التحضير” للاحتمال الأسوأ… والأخير! أي المواجهة المباشرة بين الأميركيين والسوفيات. ولولا “العامل النووي” لوقعت تلك المواجهة ربما ولاستمرت على مدى سنوات وشملت كل مواقع نفوذ الطرفين في أوروبا وآسيا وبعض أفريقيا وبعض أميركا اللاتينية!

كانت تلك مرحلة وانتهت في تسعينيات القرن الماضي مع إنهيار المعسكر الشرقي بدءاً من مركزه في موسكو… وكان التوازن النووي بهذا المعنى صمام أمان منع تراكم أسباب المواجهات بداية قبل أن تنضج الدوافع الذاتية لانكسار أحد الطرفين من دون اطلاق رصاصة واحدة! كان العالم يلاقي حلماً وقد تحقق! ويعد نفسه بمرحلة ما كانت لتخطر على بال أكثر العقول تفاؤلاً وعباطة! بل هناك من ذهب الى مقولة نهاية التاريخ، واستواء البشر على سوية واحدة أساسها النظام الديموقراطي واقتصاد السوق!

… ما فعلته حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا هو إنعاش محاولة ارتداد الى ما قبل الحرب العالمية الثانية، لكن مع السلاح النووي! وأخطر ما في ذلك هو التلويح بميني حرب نووية! أي باستسهال طرح فرضية إستخدام ما سمّاه بوتين أكثر من مرة: قنابل نووية “تكتيكية” في حرب تقليدية، أي رمي قنابل “صغيرة” كفيلة بإفناء “منطقة جغرافية” محدودة! وهذه صارت ممكنة الاطلاق بواسطة مدفعية عادية أو صاروخ قصير أو متوسط المدى! أو بواسطة طائرة حربية كلاسيكية! وربما لو لم يعلن الغرب استنفاره التام ضد بوتين، وإشهاره كل استعداداته لمواجهة ما يفعله في أوكرانيا لذهب سيد الكرملين الى ذلك القرار! وارتاح من ضنى المواجهة التقليدية التي كلفته وستكلفه ما لم يكن في حسبانه!

لكن سيد الكرملين قطع الخطوة الأولى باتجاه “تحضير” العالم نفسياً لذلك الاحتمال، وإن “اكتشف” محدوديته في عوالم ردع الأعداء وإرهابهم! وعقم استخدامه للابتزاز في سوق مقايضات لا وسطاء فيها، بل هي لمن يبتزهم أو يحاول ابتزازهم قضية موت أو حياة وليس أقل من ذلك!… استيعابه رسالة الرد على تلميحاته وابتزازه أرجعه ربما الى شيئ من الواقعية ميدانياً لكنه لم يخرجه من الورطة المصيرية التي أدخل نفسه وبلاده فيها: استعادة الماضي تعني له استعادة الامبراطورية الموؤدة لكنها بالنسبة الى الغرب هي استعادة لمناخ مواجهة وحصار “ستار حديدي” صارت حدوده أبعد ما تكون عن حدود تلك الامبراطورية!… لم يتمكن من تطويع أوكرانيا ولن يتمكن من مواجهة الحصار الغربي الذي يتشدد وسيتشدد يوماً تلو يوم، بل لن يستطيع “العودة” الى موسكو مدججاً بالخزي والخراب وفي الوقت عينه، لن يستطيع (منطقياً) اللعب بالأزرار النووية، لا التكتيكية ولا الاستراتيجية الاّ اذا صار مع النخبة المحيطة به من أنصار اعادة احياء الجماعة “القياموية” التي سعت في روسيا بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الى تعجيل “يوم القيامة” من خلال إخصاء أتباعها!

ورطة أوكرانيا ورّطت العالم كله بأزمات لا تني تتناسل وتتمدد باتجاه كل مساحات العيش ومتطلباته… وفي ذلك ربما بعض العزاء لبوتين الأوراسي الباحث عن ثأر من الغرب وقيمه ونظمه ومستوى عيشه ورفاهه وتقدمه. ومثله في كل حال مثل اضرابه في طهران وبيونغ يانغ، يجد في الفناء عزاءً!

شارك المقال