أي اتفاق؟

علي نون
علي نون

الاعلان عن وصول الحكومة اللبنانية الى اتفاق مع بعثة صندوق النقد الدولي، كان منتظراً بقدر ما كان مفاجئاً… عهد ميشال عون وجبران باسيل لم يعوّد ضحاياه على توقع الأمل أو الذهاب في أحلام يقظة عن الخلاص أو الاصلاح، ولم ينتج على مدى سنوات “سطوعه” سوى العتمة الفعلية والظلام الدامس!

الإتفاق المبدئي المشروط بسلسلة خطوات مطلوبة من لبنان، جاء كإشارة من خارج النهج المتبع… شروطه هي ذاتها شروط الإنقاذ التي بقيت عصية على التنفيذ طوال سنوات ماضيات وازداد استعصاؤها مع عون وباسيل لأنها في زبدتها وخلاصتها وفذلكتها الأكيدة تطلب من المرتكب أن يدين نفسه ويكف عن ارتكاباته! وتدعو اللص الى التوقف عن السرقة و”السماح” بمعاقبته على سرقاته! وتحض الفاسد على انتاج آلية غير عادية وذات أبعاد غير محلية، من أجل وضعه عند حدّه وانهاء فساده، ومحاسبته تالياً مع مفعول رجعي!

الشروط التي يطلبها المجتمع الدولي والجهات المانحة عبر صندوق النقد، تعني في واقع الحال ادانة تامة لأولياء السلطة وأصحابها الشرسين باعتبارهم رعاة دولة فاشلة نتيجة أدائهم، بل وأكثر من ذلك: تقول تلك الشروط ان هؤلاء الرعاة هم الذئاب! وان اللبنانيين في جملتهم دفعوا ويدفعون أثمان قصورهم عن الخروج من “غنميتهم” وانتماءاتهم “الأولى”، المذهبية والطائفية والحزبية والجهوية الى مساحة عامة شرطية لبناء دولة القانون والمحاسبة ومنها الى دولة معقولة النجاح مالياً واقتصادياً ومتآلفة في بداية المطاف ونهايته مع “طبيعة” لبنان المدموغة بالانفتاح والرحابة والصلة بالعصر والعالم تبعاً لتنوع عناصره البشرية وحيوية “ارتباطاتهم” بالخارج أياً تكن عناوينه.

تضع الجهات المانحة في العادة شروطها للمساعدة في حالات التعثر القصوى، أمام سلطات بديلة عن تلك التي أوصلت الى ذلك الهريان والتعثر… لكن لبنان “استثناء” آخر في هذا السياق، يضاف الى استثنائيته المتأتية من واقع تزاوج فساده المافيوي المتعدد الهويات (الشرعي والشعبي!) مع فساد دستوري كياني ومصيري عنوانه ازدواجية السلاح المعبّر عنها حزب ايران، الأمر الذي عنى ويعني فساد علاقاته الخارجية بأشنع صورة ممكنة!

وهذا ما دفع ويدفع الى إنتاج الفشل التام الذي استحضر صندوق النقد وشروطه نيابة عن كل الخارج المعني بكارثة لبنان واللبنانيين. ثم استحضر التفاجؤ بوصول المفاوضات بين الحكومة والصندوق الى اتفاق أولي: مطلوب من عهد فاسد أن ينسف نفسه من أجل وقف انهيار دولة تسيطر على قراراتها الكبرى جهة غير شرعية هي “حزب الله”، ومرتبطة بدولة منخرطة في نزاعات ومعارك مع ثلاثة أرباع الكرة الأرضية هي ايران! والأنكى من ذلك أن الذي يشحذ المساعدة يشترط ويتشاطر! يتهم الأميركيين والخليجيين بالتآمر عليه ثم يطلب دعمهم، ويتابع تآمره هو عليهم! ويطلب الدعم ثم يواصل الشتم والحكي عن حصار! ثم يذهب في العبث الى حدّ رسم خطوط فاصلة بين ما يقبله وما يرفضه من شروط ذلك الدعم تبعاً لحسابات سياسية ايرانية محضة!

والغريب حقاً هو أن عهد عون باسيل – “حزب الله” هذا، ضرب في سنوات معدودات إرثاً مكيناً من بنية فساد صاحبت ازدهاراً ملموساً في لبنان و”بنى” بدلاً منها حالة فساد تحطيمية وتدميرية أوصلت الى كارثة توصف بأنها واحدة من ثلاث أسوأ الأزمات العالمية في التاريخ الحديث… وبعض التوضيح واجب: كان الفساد صنواً للتقدم العمراني والثقافي والقيمي الذي شهده لبنان منذ استقلاله!. وكان رديفاً للانتاج والمشاريع الكبرى والصغرى وفي الدولة وعلى حواشيها! ومثله مثل معظم دول العالم الثالث ارتبطت التنمية فيه بالعالم السفلي غير المنظور للعامة بقدر إرتباطها بالعالم العلوي المتصل بالقوانين والمحاسبة والأصول الضابطة لسوق العمل والانتاج والتعمير. وهذا سياق كان معروفاً ومسكوتاً عنه نسبياً طالما أن النتيجة احتوت على فوائد عامة! والأمر كان شائعاً على قدر مساحات المشاريع و”التعاملات” الرسمية العامة بكل ضروبها وأصنافها… السياق العام كان صعودياً ويمكن الزعم بأن إيجابياته طغت واستفحلت على مدى سنوات ما قبل اندلاع الحرب في العام ١٩٧٥ وفي سنوات إعادة الاعمار التي تلت اتفاق الطائف! لكن مع عهد العبث والظلام والقحط والمحل حلّت الكارثة بكل ثقلها وأخذت لبنان واللبنانيين الى وضع عدمي غير مسبوق: فساد على إفلاس! ولم يصاحب انعدام التعمير والانشاء والتصليح سوى الاسوأ… أي الشروع في تدمير ما كان بني سابقاً!. وتكسير ممنهج لكل أشكال السلطة ومؤسساتها وبناها الحجرية والسلوكية البشرية ولكل مفاهيم النظام الملموسة والمنظورة والقيمية ثم لكل “مفهوم” الدولة عدا عن بنيان الدولة!

… بقدر ما كان معظم الناس في لبنان ينتظرون شيئاً من السلوك الوطني العام في ضوء محنة السقوط العميم من خلال الوصول الى اتفاق ما (أي اتفاق!) مع صندوق النقد والجهات المانحة، بقدر ما كان الاعلان عن الوصول الى ذلك الاتفاق المبدئي مفاجئاً!

شارك المقال