دعم كلامي من الرئاسات الـ 3 لـ”تعهّدات” صندوق النقد

عبدالوهاب بدرخان

هناك عناصر لافتة في الاتفاق المبدئي بين بعثة صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية. إذ ينطوي أولاً على إبداء تصميم دولي جدّي للمساعدة، بتزكية فرنسية وأميركية وأوروبية. ويضع، ثانياً، شروط الصندوق في صيغة “تعهدات” منظومة السلطة والتزاماتها. ويبدو، ثالثاً، أنه بداية خروج من النبذ الخارجي لهذه المنظومة، بل يُظهر قابلية لإعادة تأهيلها والتعامل معها، بدليل أن رئيس بعثة الصندوق اشترط موافقة موثّقة وعلنية من الرئاسات الثلاث، الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، على الاتفاق قبل إعلانه. ولم تكن هناك صعوبة في الحصول على تلك الموافقة، سواء لأن أيّاً من أطراف المنظومة لا يريد أن يلبس وحده تهمة العرقلة، أو لأن مضمون الاتفاق لا يزال بمجمله أبعد ما يكون عن “التزامات” يُفترض الشروع فوراً بتنفيذها. ولا شك أن المنظومة تشعر بأن حصولها على اتفاق، ولو مبدئي، يعني “اعترافاً” بها وبحالها الراهنة، أي بهيمنة “حزب إيران/ حزب الله” وسيطرته عليها، من دون شروط سياسية.

لم يكن وارداً إدراج أيّ شرط سياسي معروف، وأساساً هذا ليس من اختصاص صندوق النقد الدولي ومتطلّباته المحدّدة والمقتصرة على المسائل التقنية. لكن الخلفية السياسية ستكون حاضرة في إدارة الصندوق من خلال الدول الممثلة فيها، إذ أنها ستحرص على التدقيق في بنود الاتفاق والتشدّد في مراقبة تنفيذ “التعهّدات”، خصوصاً بالنسبة الى “الشفافية” المطلوبة في جوانب عديدة من الإصلاح المالي. هناك تشريعات أقرّت سابقاً تحت عنوان هذا الإصلاح وتعذّر تنفيذها، لكن أكثرها صعوبة سيأتي لاحقاً، وقد حرص رئيس بعثة الصندوق على تسجيل “إدراك” السلطات التحدّيات التي تواجهها في التزام جدول الأعمال “لتنفيذه ومواصلة التنفيذ الحاسم خلال فترتَي الانتخابات البرلمانية والرئاسية”. ويعني ذلك ضمنياً أن خبراء الصندوق موقنون بأن نتائج الانتخابات لن تحمل تغييراً في التركيبة الحالية ولن تؤثّر سلباً في “استمرارية” الالتزامات، لكن يُفهم أيضاً أنه لن يتقرّر صرف أي مساعدة قبل انتهاء الاستحقاقين الانتخابيين وارتسام ملامح حكم مستقرّ وتشكيل حكومة وحصولها على الثقة البرلمانية بناء على برنامج يثبّت الالتزامات حيال الصندوق.

توفّر عناوين الإصلاحات، كما وردت في الاتفاق المبدئي، فهماً أكثر واقعيةً لـ “خطة التعافي” وصعوباتها وآلامها الشديدة. كل نقطة تشكّل ورشة تشريعية في حدّ ذاتها، وبديهي أن العديد منها سيبدو كأنه “بناء من الصفر” وبات الإصلاح يتطلّب روحاً تأسيسية – أي روحاً وطنية، بالضرورة – للسياسة الاقتصادية والمالية. فـ “إعادة الهيكلة” لا تستثني أي قطاع، بما في ذلك المؤسسات المملوكة من الدولة وبالأخص قطاع الطاقة الذي تعرّض لسطو علني حوّله إقطاعاً لـ “التيار العوني” الذي تحوّل هو نفسه الى إقطاع/رهينة لـ “حزب إيران”. ثمة سطر مهمّ في الاتفاق ينص على أنه “سيتمّ تمويل عجز الميزانية من الخارج، وسيتمّ إلغاء الممارسات التمويلية للبنك المركزي”، ليُعاد الى وظيفته الأساسية في مراقبة الوضع المالي للبلد وتنبيه الحكومة الى الاختلالات والمخاطر، بدلا من أن ينخرط في تواطؤات سياسية – مالية وهو مدرك فداحتها.

قبل أسبوع قال وزير الاقتصاد التونسي، ردّاً على سؤال، أن الأوضاع الاقتصادية والمالية في بلاده تختلف عما يشهدها لبنان، على الرغم من أن هبوط قيمة العملة وعجز الميزانية وتهور الأحوال المعيشية أشعرت التونسيين بأنهم يمرّون بالعوارض المرضية اللبنانية نفسها. وبمعزل عن صحة أو عدم صحّة قول الوزير إن البنك المركزي التونسي يعمل بكل استقلالية ويحافظ على نسبة فائدة إيجابية مقارنةً بنسبة التضخّم، فإنه لم يخطئ بتأكيد أن ضغوط الأزمة لم تدفع الى التوسّع في الميزانية بالأوراق المالية. وكان يمكن للوزير أن يضيف أن لا وجود في تونس لحزب إيراني يستند الى سطوة سلاحه كي ينشئ “القرض الحسن” ويؤسس نظاماً اقتصادياً موازياً لحسابه، ولو وُجد لمنعه البنك المركزي قبل أن تتدخّل الدولة لمنعه. ولعل وجه التشابه بين لبنان وتونس يكمن في الانسداد السياسي الذي يجعل المؤسسات الخارجية تتمنّع عن المساعدة ما لم ترَ إصلاحات جوهرية.

وفقاً للاتفاق المبدئي، وبعد موافقة إدارة الصندوق، وبشرط تنفيذ الإجراءات المسبقة “في الوقت المناسب” (غير محدّد)، سيحصل لبنان على نحو 3 مليارات دولار لفترة تقارب أربع سنوات. في 2018 نال مشروع “سيدر” من الدول المانحة تعهّدات بـ 11 مليار دولار مشروطة بالإصلاحات، ولم يكن البلد قد “أفلس” بعد ولا شهد الانهيار الحالي المستمر. كان واضحاً آنذاك أن الوقت داهم وينبغي التحرّك بسرعة بعد الانتخابات، لكن منظومة الحكم استهلكت ستة أشهر ونيّف في تشكيل حكومة جديدة، تلتها عشرة أشهر أخرى أضيعت في مناقشات وشعبويات عقيمة حول الإصلاحات، وفي أزمات سياسية مصطنعة، ثم انفجرت “ثورة 17 تشرين” فتبخّر “حلم سيدر” وانكشفت القوى السياسية بما فيها “حزب إيران/ حزب الله” الذي قاد ثورة مضادة مهدّداً بحرب أهلية للحفاظ على سلاحه غير الشرعي.

كانت الحماسة الفرنسية نجحت في اقناع الدول المانحة بمشروع “سيدر” (نيسان 2018) أي قبل شهر من الانتخابات، وساهم الضغط الفرنسي أيضاً في التوصّل الى الاتفاق المبدئي مع الصندوق الدولي (نيسان 2022) قبل شهر من الانتخابات، والواضح بين سطوره أن الصندوق لن يقدم الدعم الى حكومة تصريف أعمال، بل الى حكومة فاعلة ومستقرّة لن تولد نظرياً إلا بعد الانتخابات الرئاسية، أي بنهاية السنة، على افتراض أن القوى السياسية تعلّمت الدرس وسهّلت ولادتها في مهلة قصيرة. استناداً الى الاستطلاعات والتوقّعات ستبقى الغالبية البرلمانية تحت سيطرة “حزب إيران”، وقد تتعزّز، مما سينعكس أيضاً على رئاسة الجمهورية. كل ذلك يشكّل أسباباً سياسية لتشدّد إدارة الصندوق الدولي في شروطها لتبقى المساعدة في إطار وقف موت الدولة اللبنانية من دون أن تساهم في انعاشها مخافة انعاش الفساد. في المقابل، تواصل الدول المعنية البحث في مساعدات “مخصصة” للشعب اللبناني، كذلك للجيش والأمن، إذ بات محسوماً أن أي مساعدة لـ “الدولة” تعني مساهمة في تمكين مشروع إيران و”حزبها” في لبنان.

شارك المقال