علم النفس!

علي نون
علي نون

علم النفس في الحروب سلاح فتاّك عندما يستخدم في لحظته ومكانه المناسبين… وهذا رديف في لغة المعارك العسكرية لأفعال التمويه والخداع، والذهاب الى الشرق عندما يتوقع العدو منك أن تذهب الى الغرب، أو عندما تمعن آلة العلك الحربي في الحديث عن انتصارات فيما الهزائم تتوالى.

وذلك العلم في الحروب سلاح فتاك في أيدي الأذكياء حتى لو كانوا في بعض الحالات في الصف الأضعف، ويتضاعف فتكه عندما يكون مصاحباً للأقوى.

… عندما ارتكب صدام حسين غلطة عمره وغزا الكويت في صيف العام ١٩٩٠، لاحظتُ مثلما لاحظ كل من كان يعيش في الغرب آنذاك، أن الآلة الاعلامية الغربية بجملتها لم تترك تفصيلاً بسيطاً أو معقداً الا واستخدمته لإنضاج “فكرة” أن تحرير الكويت يوازي الدخول الى برلين في الحرب العالمية الثانية… والمقارنة هنا لم تكن سوى في التركيز الشديد على مقدار “قوة” جيش صدام! وشخصية صدام نفسه! وكيف أن الاول ذو بأس وقدرات لا تقل عن تلك التي كانت عند جيش الرايخ الثالث… فيما الثاني، أي صدام نفسه، لا يقلّ “ذكاء” وشيطنة وخطورة عن هتلر نفسه!

والضّخ الاعلامي المركّز والمنفوخ لم يكن باتجاه إقناع الرأي العام الغربي بضرورة الذهاب الى الحرب لتحرير الكويت وتأمين خطوط الطاقة ومنابعها وحسب، بل بإتجاه الهدف المطلوب وصدام تحديداً. وعلم النفس هنا معركة تامة: تضخيم قوة جيش صدام على الرغم من العلم الدقيق والمسبق بتواضع قدراته مقارنة بالجيش الأميركي مثلاً، كان يستهدف تدعيم نوازع الغرور التي ركبت رأس صدام بعد انتهاء الحرب مع ايران باندحارها وإعلان هزيمتها! ثم ترسيخ ما “يؤمن” به الرئيس العراقي أساساً لجهة إعتماده العنف بكل ضروبه نهجاً وحيداً وأكيداً للوصول الى ما يريده… وهو وصل الى السلطة بقبضته ومسدسه وعشيرته وليس بفكره ولا بريادته الابداعية والعقلية والتنظيمية ولا بالانتخاب ولا باعتماد أساليب ناعمة أو مشتقّة من مخزون الديموقراطية جدالاً أو تصويتاً أو مالاً!

العنف في مسيرته كان مقدّساً. وهذا ولّد إيماناً فعلياً بأن القوًة هي الردّ الأنجع والأنجح على كل معضلة أو سؤال عويص أو مشكلة مستعصية أو انكسار الميزان لصالح الآخرين… نمت شخصيته وتطورت على ذلك المعطى دون سواه وصار “السيف” عنده جواز مروره الى مبتغاه في الحزب والسلطة والعراق والحرب مع ايران… وصولاً الى الكويت!

آلة الغرب الاعلامية والسياسية والديبلوماسية اشتغلت بحرفية تامة وبزخم وبكامل قوتها لتغذية “إيمان” صدام بنهجه! ومنطقه وقياساته العنفية… كانوا يعرفون مدى ركاكة جيشه المنهك بعد الحرب مع ايران ومع ذلك صوّروه بصورة جيش الرايخ الثالث! وكانوا يعرفون نقاط ضعفه الشخصية لجهة ضمور المنطق الاستراتيجي في تفكيره وإيثاره التشبّه بالشخصيات والرموز التاريخية الكبيرة من دون الانتباه الى الحاضر المعقّد والمركّب وفق قياسات حديثة ومع ذلك أمطروه بصفات الجبابرة والعظام والأقوياء والتاريخيين!

أرادوا اصطياده وتحطيم خطره وهو كان أول أسلحتهم في المعركة ضدّه!

… في أيار (مايو) من العام ألفين انسحبت إسرائيل من الشريط الحدودي الذي كانت تحتله في جنوب لبنان. وأنجزت الأمر من دون أي ترتيبات تسووية أو تصالحية مع الدولة اللبنانية، بل ظهر تفكيكها لمواقعها العسكرية وتخليها عن حلفائها كاندحار تام أمام مقاومة أنهكتها وأتعبتها وسببت لها خسائر كبيرة!

وكان الحدث غريباً والخطب جللاً! باعتبار أن ذلك الانسحاب جاء من خارج سياقات المرحلة ومناخاتها بعد اتفاقي أوسلو ووادي عربة: إسرائيل منخرطة في مفاوضات كبرى مع سوريا حافظ الأسد ومع فلسطين ياسر عرفات ووجه المشرق العربي برمته يخضع لعملية تغيير غير مسبوقة منذ العام ١٩٤٨ مثلما أن الركّ كان في ذروته على اعادة “تشكيل الوعي” العربي والاسرائيلي وفق أسس كانت اتفاقات “كامب ديفيد” مع مصر بدايتها… في هذه “اللحظة” تقرر إسرائيل أنها خضعت لمنطق القوة! وانهار إحتلالها لأرض عربية نتيجة المقاومة وليس التفاوض! لكنها في الواقع كانت “تخاطب” عرفات تحديداً وليس الأسد: انسحبت من جنوب لبنان وأنهت دويلة تابعة لها فيه كي تمنع قيام أركان دولة فلسطينية طال انتظارها! ولأنها تعرف “شخصية” الزعيم الفلسطيني بدقّة وحرفية وتعرف هوسه بالتاريخ وبرمزية كونه “الثائر” و”المحرر” وضعت أمامه المقياس اللبناني قبل شهور قليلة من استئناف مفاوضاته الحاسمة مع ايهود باراك في كامب ديفيد برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون! وافترض (والله أعلم بذوات الصدور) أن عرفات وقع في فخ المقارنة الذي نصبه العقل الاستراتيجي الاسرائيلي وضيّع فرصة العمر! وفي تلابيب شخصيته ودواخلها عزّ عليه أن “يوقّع” على تسوية تاريخية مؤلمة فيما “غيره” في لبنان، أخذ ما يريد “بفوهة البندقية”!

… في شهر آب (أغسطس) الماضي انسحبت القوات الأميركية من أفغانستان وبطريقة لا تليق بجيش من العالم الثالث! وشاهد العالم بأسره فصلاً مخزياً من “الضعف” الأميركي غير المتناسق مع “قوة” المقاومة الأفغانية ولا مع جبروت حركة “طالبان”، بل الغريب الذي صدم كل من عليها هو أن أمور السلطة في كابول كانت معقولة ومقبولة وميسّرة وغير مضغوطة بتطورات ميدانية مشابهة مثلاً لمسيرة الفايتكونغ باتجاه سايغون في نيسان (ابريل) من العام ١٩٧٥!

ومع ذلك “إنهارت” السلطة في كابول نتيجة “انهيار” الوجود العسكري الأميركي في عموم أفغانستان! وكان “شكل” الانسحاب ذاك أهم من معطى الانسحاب نفسه! وقيل يومها (والذاكرة لا تزال طرية) ان واشنطن جو بايدن نفذت قراراً كانت واشنطن دونالد ترامب اتخذته لانهاء أطول حروب أميركا في العالم… لكن “طريقة” التنفيذ و”شكله” أعطيا انطباعاً لا تخطئه العين عن “مدى الضعف” الذي أصاب الولايات المتحدة! ومدى “الهشاشة” الذي بلغته أوضاعها بعد ثلاثة عقود من انتصارها في الحرب الباردة وتكريسها قطباً وحيداً ولا يُقارن في عموم الكرة الأرضية!

… وتلقف فلاديمير بوتين “اللحظة”! وكأنه وصل الى ذروة قناعاته: آن الأوان لتصحيح التاريخ! والثأر من الغرب الأميركي والأوروبي! واستئناف مسيرة إعادة أمجاد الامبراطورية المتفسخة! وإنهاء الأحادية الأميركية! وانتهاز فرصة “الضعف” الضارب في القوة العظمى المنافسة!… وذهب الى أوكرانيا كأنه ذاهب في رحلة استعراضية للقوة والجبروت ولغة العنف والسلاح، جرّبها من قبل في أماكن أخرى ونجحت! ولم ينتبه (مثلاً!) الى أن واشنطن كانت بدأت قبل إعلانها الانسحاب من أفغانستان، تحذيراتها من أن بوتين يستعد لعمل حربي كبير ضد أوكرانيا!

تبين اليوم (ربما!) أن واشنطن العالمة والدارسة والفاهمة “شخصية” زعيم الكرملين، قدّمت له قشرة الموز الأخيرة من خلال إظهار مدى “ضعفها” في أفغانستان والذي دفع بها الى ذلك الانسحاب “المخزي” منها!

ويتبين اليوم (ربما تكراراً) كيف ولماذا انتصر العقل الاستراتيجي الغربي في “كل” حروبه الكبرى وعلى مدى التاريخ، ومن ضمنها “معارك” الأدلجة والحداثة والتكنولوجيا والتنمية والرفاه والتصنيع والاقتصاد والمال والفنون وطريقة العيش!

قال حكماء اليونان في ماض سحيق “اعرف نفسك” وهذه في علم النفس صنو “اعرف عدوك”! والله أعلم!

شارك المقال