ماذا عن مسرحية “عودة الدولة” الى ضاحية “حزب إيران”؟

عبدالوهاب بدرخان

تشهد ضاحية بيروت الجنوبية حملة أمنية واسعة، بعد تكاثر أنواع الجرائم والتعدّيات شتى، وهي ليست الحملة الأولى من نوعها. كالعادة يجري الحديث عن ارتياح الناس الى “عودة الدولة” بل إن البعض أشار الى أن “الضاحيتيّين” فوجئوا بأن الدولة “موجودة” أو أعادوا اكتشافها. وذُكر أن عشرات المطلوبين بجرائم السرقة والنشل وترويج المخدرات أوقفوا، والأهم أن القوى الأمنية ستلاحق في مرحلة تالية “مشغّلي” الأشخاص المتورطين في أعمال خارجة عن القانون. ومن يعش يرى إنْ كانت “عودة الدولة” من “محدثات الأمور” وبالأخصّ إنْ كانت “كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”.

لو لم تتفاقم ظاهرة ترهيب السكان الى حدّ الجهر بالنقمة لما اضطر “حزب إيران/ حزب الله” وحركة “أمل” الى الترخيص لقوى الأمن كي تقوم بواجباتها. ولا بدّ أنها أُخضعت لشروط كثيرة صارمة غير معلن عنها تتناول انتماءات عناصرها وحيّز تحرّكها، واستثناء كوادر “الحزب” و”الحركة” وأعضائهما من أي تفتيش أو تدقيق أو توقيف أو اشتباه. الأرجح أن هذه الحملة ستكون آنية وعابرة كسابقاتها، ويقتصر هدفها على تمرير مرحلة، ثم تعود الأوضاع الى سابق عهدها. إذ أن صاحب السلطة في الضاحية لا يحبّذ تكريس وجود دولتيّ فيها، صوناً لسطوته وتفادياً للازدواجية أو لإعطاء انطباع “خاطئ” للمناطق الأخرى.

الكلّ يتذكّر تلك الفيديوات التي بثّت نقمة بعض “الضاحيتيّين” عندما اشتدّت الأزمة المعيشية وكيف أنهم ركّزوا احتجاجهم على زعيم “الحزب”/ “السيد حسن”، ثم كيف ظهروا في فيديوات اليوم التالي وقد “صحّحوا” مواقفهم بعدما تعرّضوا لعقاب شديد. كانت الحادثة تأكيداً للمؤكّد، ولم يكن فيها ما يستدعي العجب ولا السخرية ولا الشماتة. فالمعاناة من الأزمة الحياتية في الضاحية لا تختلف عنها في أي منطقة، والتعديات والجرائم تكاد تعمّ البلد، أما الفارق فيكمن في أنواع العوز ونسبة الجوع وتحديداً درجة القمع التي منعت مجرّد الاحتجاج لأنه عندئذ سيمسّ “سمعة المقاومة” أو يكون جزءاً من “مؤامرة كونية” عليها.

فهل هذا ما اضطرّ “مجموعة من شباب الضاحية” الى نشر بيان مجهول المصدر على “واتساب”، أم أن بيانها كان بمثابة تمهيد وتبرير لاستدعاء قوى الأمن كي توقف لصوصاً معروفين لدى “الحزب” و”الحركة” إلا أن روابط عشائرية أو عائلية تمنعهما من تحمّل المسؤولية مباشرة؟ أعلنت “المجموعة/ المجهولة – المعروفة” أنها ستبادر الى “الردّ بالمثل” (مَن يستطيع أن “يبادر” في الضاحية؟) على من يرتكب “عمليات النشل والسرقة والأذية” سواء بـ “إطلاق النار عليه أو ضربه بالسكين”، ودعت العائلات إلى “ضبط أبنائها الخارجين عن القانون”. اللافت أن “المجموعة” عزت شيوع هذه الجرائم الى “التقاعس الممنهج من المعنيين في أجهزة الدولة”. نعم، قالت “تقاعس”، وكأنها تهذر، لكن “الضاحيتيين” لا يستسيغون مزحة كهذه، فالكلّ في الضاحية يعرف الكلّ، ولا داعي للغباء والاستغباء.

لكن افتراض وجود “تقاعس” مستجَد يسبقه افتراض أن أجهزة الدولة كانت ممسكة بالأمن ثم تخلّت عن واجبها (بفعل الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية)، وهذا غير صحيح واقعياً، فالأصح أنها كانت وتبقى ممنوعة من القيام بعملها إلا بإذن من سلطة الأمر الواقع في الضاحية، وهذه السلطة هي التي طلبت الحملة الأمنية من أحد أجنحتها في “الدولة” وتعهّدت تأمين حماية لقوى الأمن. هنا تُطرح احتمالات عدة: إما أن “التقاعس” بدأ لدى “الحزب” و”الحركة”، وإما أن الوضع خرج عن سيطرتهما فاحتاجا الى “الدولة” كطرف “محايد” بينهما وبين بيئتهما، وإما أن الحملة مسرحية يُراد بها – مجدّداً – إظهار “حزب إيران” كعنصر قوة معزّز لـ “الدولة” الى حدّ أنه يفتح لها مداخل معقله، أو “عاصمة دولته”، لكنه مع ذلك يبقيها خارج “مربعه الأمني”.

في العادة يلعب “الحزب” أدواراً خفية لتوجيه أجهزة الدولة (“المتقاعسة”) الى مناطق بعيدة عن نفوذه وجمهوره (طرابلس، مثلاً، وقبلها صيدا) يروّج إعلامه أنها مصدر للإرهاب وخطر على الاستقرار. لكنه كان يستغلّ توجيهاته تلك لاختراق هذه المناطق وإقامة بنى تحتية مسلّحة فيها (“سرايا المقاومة” وغيرها) كجزء من خططه للسيطرة على البلاد، بزرع الانقسامات وتمزيق المجتمعات المحلية مستثمراً في الفقر والبطالة والجهل للتعبئة والتجنيد.

وفي الاطار نفسه يجعل “الحزب” من الضاحية الجنوبية لبيروت نموذجاً لـ”دولته”، بمؤازرة لدودة من “الحركة”، وعلى الرغم من أنهما مسؤولان على أعلى مستوى في قيادتيهما عن إشاعة نمط “الحصانة المذهبية” وتعميم الإفلات من المحاسبة والعقاب، إلا أن القيادتين تفضّلان التبرّؤ من الجرائم والتداعيات التي يقدم عليها أفراد أو عصابات من تحت عباءتيهما، فالجناة والمتضرّرون من جمهورهما وبيئتهما. ولكي يكون هذا التبرّؤ “مُقنعاً” لا بأس في استئجار خدمات الدولة والذهاب – كما قيل – الى حدّ “رفع الغطاء عن كل متورّط”. وفي ذلك اعتراف بأن ثمة متورّطين تمتعوا بتغطية سمحت لهم بالبلطجة والتشبيح، كما أن فيه اعترافاً بأن “الحزب” و”الحركة” عاجزان عن إحقاق الحق ولم يكتسبا صفة “فرض القانون”، بل إنهما يتمتعان بشعبية أسساها على حماية جمهورهما في كل مخالفاته وتعدّياته على الدولة، وعلى قاعدة أن القانون وُجد لينفّذ تحديداً على أبناء المناطق والمذاهب الأخرى.

قال أحد نواب “الثنائي الشيعي” إن اللقاءات مع أهالي ضحايا الجرائم والتعدّيات في الضاحية (وليس أهالي ضحايا انفجار المرفأ، طبعاً) أظهرت أن “الأمور لم تعد تُحتمل”، وأن “الجميع على قناعة بأن لا بديل عن حضور الدولة، ولا أحد يأخذ دورها”، بل أضاف أن “غياب الدولة أو ضعف وجودها سيؤدي إلى انتشار الجريمة، وهو أمر لا نقبله ولا نسكت عنه”… ليس فقط أن هذا النائب، وهو مجرّد عيّنة من المتدرَّبين على الدجل، لا يمكن أن يصدّق نفسه، بل إنه يعتقد أن أهالي الضحايا صدّقوه ووافقوا على مطالبته بدور للدولة في الضاحية، لكن دور الشرطي حصرياً، وفي النطاق الذي يحدده له “الحزب” و”الحركة”. فكل الكلام عن انتشار الجريمة لا يشير الى سيطرة حزبَي “الثنائي” على الضاحية، ومن خلالها على مجمل البلد، بوصفها “الجريمة الكبرى” التي يجهّلها النائب بحكم تبعيته، ولا يجهلها أهالي الضحايا الذين يمنعهم الخوف من تحديد الجهة التي يأتي منها البلاء، لذا يطالبون بالدولة ويعرفون مسبقاً أنها لن تخلّصهم منه.

شارك المقال