ثرثرة فوق المتوسط

عالية منصور

فاجعة إغراق “قارب الموت” قبل أيام ليست الفاجعة الأولى التي تحل بطرابلس، تلك المدينة الجميلة ببساطتها وصدقتها وعفويتها، المدينة الأفقر على ساحل المتوسط حسب التقارير الدولية، ولكنها المدينة الأكثر كرماً حسب شهادات ضيوفها وزوارها.

حتى الآن لا حصيلة نهائية لضحايا “رحلة الموت” التي كانت متجهة من شواطئ طرابلس نحو السواحل الايطالية، وإن كانت غالبية الضحايا والمفقودين حتى اللحظة من الأطفال والنساء، الا أن الصادم هو رواية الناجين عن اصطدام زورق للجيش عمداً بزورقهم ما تسبب بعطل فيه وغرقه. وصرح قائد القوات البحرية في الجيش اللبناني العقيد الركن هيثم ضناوي، بأن القارب الذي تعرض للغرق “عمره 48 عاماً، إذ صنع في العام 1974، وهو قارب صغير يبلغ طوله 10 أمتار وعرضه 4 أمتار، وتبلغ حمولته المسموحة 10 أفراد فقط، وأنه لم يحمل سترات إنقاذ ولا أطواق نجاة”، مضيفاً: “حاولنا أن نمنعهم من الانطلاق لكنهم كانوا أسرع منا. وحاولنا أن نشرح لهم أن المركب معرّض للغرق، إلا أن القائمين عليه لم يقتنعوا من عناصرنا الذين يعانون معاناتهم نفسها، وقائد المركب اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب من الخافرة بشكل أدى إلى ارتطامه”.

وأوضحت قيادة الجيش في بيان أن القارب غرق بعيد مغادرته القلمون بسبب اكتظاظه وسوء الأحوال الجوية، فيما أصر أحد الناجين على أن القارب غرق بعد أن طارده الجيش، وقال لوكالة “فرانس برس”: “ان زورق دورية اصطدم بقاربنا مرتين”، قبل أن تطلب منه عائلات ناجين الصمت.

توالت ردود الفعل الرسمية المتضامنة مع طرابلس وأهلها، بيانات وتغريدات وتصريحات اتسمت غالبيتها بالبرود والتكرار الممزوج بالاستغلال، فالزمن زمن انتخابات ولوائح ومرشحين كثر يتنافسون على أصوات الطرابلسيين، فيذكرونهم في كل موسم انتخابي وحدث سياسي قابل للاستغلال، وينسون تلك المدينة الجميلة وأهلها باقي الأيام.

هي نفسها طرابلس “عاصمة الثورة” يوم كان الاعلام يهلل للثورة. وهي نفسها طرابلس التي أطلق عليها الاعلام نفسه لقب “قندهار”. هي طرابلس أم الفقير التي استقبلت آلاف اللاجئين السوريين ووحدها على الرغم من فقرها تقاسمت معهم كسرة الخبز من دون أن يصدر عن أهلها تصرفات وحملات عنصرية، فهم أيضاً ضحايا النظام السوري، بل أكثر مدينة لبنانية عانت من الجيش السوري ودفع أهلها أثماناً غالية جداً مقابل حريتهم واستقلالهم من دون أن يساوموا، هم من قدموا من دون مقابل لم نسمعهم يوماً يطالبون بالانفصال.

طرابلس التي يحرم أهلها من الوظائف بانتظار معجزة ما تحقق توازناً طائفياً فيسمح البعض بتوظيفهم ولو بوظائف الحد الأدنى.

طرابلس التي شهدت جولات وجولات من الاقتتال بين باب التبانة وجبل محسن يوم كان البعض يستخدمها لتوجيه الرسائل السياسية، ولتتوقف المعارك كما بدأت من دون أي حدث مفصلي يبرر بدايتها أو نهايتها.

طرابلس التي قرر بشار الأسد تفجير المصلين الاَمنين فيها بالاشتراك مع مسؤولين لبنانيين، فنسي باقي لبنان تضحياتها، ويا ليتهم نسوا، بل عند كل استحقاق سياسي ينكأون جراح المدينة وأهلها ليعودوا بعد نهاية استحقاقاتهم وينسون كل ما قدمته من أجل لبنان، فيستكثرون عليها مشروعاً قد ينعش أهلها ولو قليلاً لصالح مناطق أخرى، كيف لا والمظلوميات الطائفية حاضرة دوماً والغائب الأكبر هم المظلومون حقاً.

قد يكون البعض تعود أن يسمع خبر غرق طفل سوري في مراكب الموت الكثيرة، فصورة ايلان الذي صار رمزاً حاضرة دوماً، لكن أن نسمع بغرق طفل لم يتجاوز الأربعين يوماً في قارب الموت، أو فقدان امرأة حامل كانت على القارب نفسه، في زمن رئيس يسمى عهده بالعهد القوي، فمن المؤكد أننا صرنا نعرف أنه قوي على الضعيف والفقير الطرابلسي.

أن نقرأ عن امرأة سورية وأطفالها كانوا على القارب نفسه وقضوا غرقاً، فهي وحدة المأساة التي تجمع المظلومين طرابلسيين وسوريين.

هي ليست قضاء وقدر، إن كان القارب قد غرق أو أغرق، بل جريمة مستمرة مع سابق إصرار وتصميم بحق طرابلس وأهلها.

في رواية “ثرثرة فوق النيل” للكاتب المصري الحائز على جائزة نوبل للآداب نجيب محفوظ، يقول:

قالت في قهر شديد:

اني صائرة الى موت محقق!

فقال:

كلنا صائرون الى الموت…

انما أعني موتآ أفظع.

ليس ثمة ما هو أفظع من الموت.

ثمة موت يدركك وأنت حي!

وهل أبشع من هذا الموت الذي يعيشه من يخاطر بحياته وحياة أولاده ليهرب من هذه “الحياة” وهذا الظلم؟

أنصفوا طرابلس بالفعل قبل أن تنصفكم بعقاب تستحقونه، فمأساة أهلها المستمرة ليست شعاراً انتخابياً ينسى في 16 أيار، ولا شهداؤها ترند على صفحات التواصل الاجتماعي يتفوق عليه بعد ساعات صفعة وزير ساخر وفاشل. أنصفوا المدينة بالفعل وتوقفوا عن الثرثرة فوق جراح الطرابلسيين.

شارك المقال