في روسيا والغرب

علي نون
علي نون

لم يكن من بديل عن الاستنفار الغربي الشامل في وجه فلاديمير بوتين جراء غزوه أوكرانيا… التراخي لم يكن وليس وارداً في حسابات أي سلطة ديموقراطية أوروبية أو أميركية. وإظهار التردد أو الميوعة في المواقف أيضاً لم ولن يكون خياراً صحيحاً أو ممكناً أو قابلاً للاستخدام المناور إزاء الزلزال الحاصل. سوء تقدير بوتين لكيفية مواجهة الغرب له على محاولته تعديل الخرائط السيادية، كان ولا يزال العامل المركزي الذي ولّد سلسلة من العوامل المدمّرة له أكثر من تدميرها لضحيته!

وغرابة هذا المعطى تبدو عصية على الاستيعاب: كيف يمكن رئيس دولة شبه عظمى (أقلّه بالمعنى النووي!!) أن يكون على هذا القدر من الضحالة الاستراتيجية! وكيف يمكن أن يكون قصير النظر الى حد أنه لم يرَ في مرمى نظره خطورة ما اقترفه. ثم عدم توقعه استحالة السكوت أو التراجع أمامه… ثم افتراضه المراهق أن تسيير جيوشه بإتجاه دولة أوروبية كاملة السيادة يمكن أن يوازي تحطيمه جمهورية الشيشان (الداخلية بالمفهوم الجغرافي الروسي) أو اقتطاعه جزءاً من جمهورية جورجيا الفتية، أو “استعادته” القرم الى السيادة الروسية… أو ذهابه الى سوريا لإكمال نكبتها بالنيابة عن عالم أرعن لا يقيم وزناً لمنطق حقوق الانسان الا وفق قياساته العنصرية والمصلحية المباشرة!

ضحالة حسابات بوتين تشبه تلك التي “تميّز” بها صدام حسين! سوى أنه في دولة مركزية كبرى وأساسية ووريثة امبراطورية حكمت نصف أوروبا ووصلت الى الفضاء وتمتلك إنجازات علمية في كل القطاعات، العسكرية منها والمدنية، ويُفترض أن تكون آليات الحكم والسيطرة فيها أرقى وأدق وأعقد من تلك التي كانت في عراق البعث العشائري الصدامي. أو سوريا العائلة (الطائفة) الأسدية. أو كوريا الفريدة في تأليه قادتها على وقع نظرية الالحاد الماركسية! أو كوبا النائية التي لم يجد قائدها كاسترو بعد خمسين عاماً من حكمه، سوى توريث شقيقه قيادة الدولة والثورة والأمة والحزب والنضال المستدام ضد الامبريالية باعتبارها أعلى مراحل تطور الرأسمالية… هذا المنطق السليم يفترض أن روسيا ليست كذلك! وأنها لا يمكن الا أن تخضع لآليات منضبطة وفق سياقات مترابطة، وتحديداً لأنها على ذلك القدر من التطور العسكري والتسليح النووي والثروات الطبيعية التي تجعلها جزءاً محورياً تلقائياً من نظام السوق المفتوحة عالمياً وخصوصاً في قطاعي النفط والغاز!… وهي عندما كانت عاصمة المحور الاشتراكي ومحكومة بوحدانية حزبية مقفلة ومغلقة ومقنِنة لكل معطى يتصل بالبشر والسلطة، وتعطي الأمين العام للحزب صلاحيات كثيرة وخطيرة، ومنخرطة في صدام ايديولوجي على وسع مساحة الارض… عندما كانت كذلك، خضعت آليات صنع القرارت الكبرى والمصيرية فيها لشبكة من التعقيدات والتركيبات والتحليلات والمعلومات والترتيبات الحزبية والسلطوية، بما يضمن عدم الغوص في محنة قرار فرد واحد يمكن أن تودي بالجميع “في ستين داهية” سوداء مثل التي أوصل بوتين اليها روسيا اليوم! ويكاد أن يوصل العالم كله معه الى ما هو أدهى!.

وعلى الهامش: في قصة الغاز الروسي الى أوروبا فصل لا يقلّ تشويقاً… أولاً كيف تغافلت العقول الاستراتيجية الكبرى في القارة القديمة والولايات المتحدة عن كوامن الخطر المتأتية من الإعتماد الى ذلك الحد على وارداتها لهذه الطاقة المصيرية من جهة واحدة هي روسيا بوتين!؟ وكيف لم توضع في الحسبان خيارات بديلة تبعاً للاحتمالات السيئة والواردة… والتي وردت أخيراً!؟ وكيف لها أن لا تتنبه لمسار الشخصية الكامشة بالقرار في الكرملين، ورؤاه الإحيائية التي كانت تحكم حراكه على مدى سنوات طويلة! وكيف لم تتحسب لمعنى سعيه الى اعادة بناء الإمبراطورية الموؤدة وهو الذي أعلن بنفسه مراراً وتكراراً أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر خطأً استراتيجي وأكبر كارثة أصابت روسيا!؟

وثانياً، على الجانب الاَخر: كيف يمكن لبوتين أن ينفعط ويتذاكى الى هذا الحد ازاء حقيقة عدم إدخال صادرات الغاز في نظام العقوبات الغربية على روسيا راهناً، وأن يتشاوف بقرار استخدام الروبل بدلاً من الدولار الأميركي للدفع وما عناه ذلك من ارتفاع في سعر العملة الروسية نتيجة ازدياد الطلب عليه من مستوردي الغاز الأوروبيين!؟ ألا يرى مثلاً أن هؤلاء المستوردين وضعوا خططاً بديلة لتأمين الغاز من مصادر غير روسية وأن ذلك يفترض أن لا يأخذ وقتاً طويلاً (بعضها أواخر هذا العام وبعضها بعد سنتين أو أكثر قليلاً) وأن ذلك سيعني كارثة كبرى بالنسبة الى موسكو… كبرى وكاسحة ومعها سيصبح الروبل شقيقاً وُلِدَ متأخراً، للعملات “المحظوظة” من البوليفار الفنزويلي الى الليرة السورية والتومان الايراني الى الليرة اللبنانية…الخ!؟.

لكن ربما في ذلك بعض العزاء المطلوب بحرارة: خنق روسيا بالعقوبات سيكون أمراً حتمياً. غير أن السؤال المحوري هو عما بعد ذلك؟ وهل يمكن الاطمئنان الى ردة فعل ساكن الكرملين حينها بعد إعطائه ورقة الحصار لبيعها لعموم الروس و”تأكيد” نظريته القائلة بأن الغرب يريد تدمير بلادهم فعلياً! وهل يستطيع صنّاع القرار في الغرب تقديم جواب حاسم على هذا السؤال وهم الذين فشلوا أصلاً وأولاً في قراءة بوتين وتوقع خطواته الى أن وقعت الواقعة؟

خطايا بوتين صارت ملموسة، لكن خطايا مواجهته ووضعه عند حدّه لا تزال ملتبسة وضبابية على الرغم من أنها موجودة! والمقصود في ذلك هو أن الغرب المستنفر حتى النخاع يجب أن يبقى مستنفراً حتى النخاع… وأن يحرص على إفشال بوتين وإحباط أهدافه في أوكرانيًا وبعدها. لكن ذلك شيء، وكسر روسيا التاريخية شيء آخر! روسيا ليست بوتين ولا طقمه المعاون له، والعكس صحيح. والفصل بين الأمرين مهمة تقع على عاتق العقول الإستراتيجية الفحلة في الغرب… وليس على عقلي البسيط! والسلام.

 

 

شارك المقال