عيد العمال!

اكرم البني
اكرم البني

ربما يعتبر البعض الوقوف عند عيد العمال في الأول من أيار، أشبه بالفانتازيا في ظل ما شهدته الطبقة العاملة عالمياً من تغيرات، بنية ودوراً، والأسوأ في ظل ما حل في بلد كسوريا، محكومة بسلطة وجبهة “وطنية تقدمية” مؤلفة من أحزاب اشتراكية وشيوعية، تعتبر نفسها خير من نصر وينصر حقوق العمال وعدالتهم الاجتماعية، لكن، بعيداً عن الفانتازيا، ثمة بعض الفائدة المتوخاة من التذكير بهذه المناسبة هي تسليط الضوء على استمرار الدعاية الديماغوجية لأحزاب اشتراكية وشيوعية سورية، لا تزال، ومن دون خجل، تحتفي بعيد العمال، وكأن لا شيء تغير، وكأن لا خراب ودمار طال وطناً برمته، وكأن لا ضحايا ومفقودين بمئات الألوف سقطوا، وكأن ليس من طغمة قهر وفساد تتمسك بالسلطة وامتيازاتها، حتى لو احترق البلد وشرّد وأبيد أكثر من نصف شعبه.

لكن لا يخفى على أحد، أن البيانات المحتفية بالعيد التي تصدرها تلك الأحزاب السورية باتت تشبه حديثاً مع الأشباح أو صراخاً في الصحراء، خاصة حين تطالب الطبقة العاملة برص صفوفها لحماية الوضع القائم على ويلاته ومآسيه، ودحر ما تعتبره مؤامرة على الوطن، كذا! وكأن هذه الأحزاب ما تزال تعيش على أوهام الماضي ولا تريد أن تعترف بأن الطبقة العاملة غابت اليوم تماماً من المشهد ولم تعد تملك حضورها ككيان مستقل، بل ثمة تغيير كبير طرأ على طابعها وبنيتها خلال العقدين المنصرمين مع نجاح النظام في إخضاعها وتفريغ دورها عبر تطويع أحزابها، والقصد الأحزاب الشيوعية، وتحويل مؤسساتها النقابية الى أدوات طيعة في يده، وإذا أضفنا انطفاء الحلم البروليتاري بعد انهيار التجربة السوفياتية، ثم دور الصراع المحتدم لسنوات طويلة في خلق شروخ وانقسامات حادة بين صفوف العمال مزقت وحدتهم وأجهضت أية فرصة لدور جمعي يمكن أن يقوموا به، وأضفنا أيضاً حجم الدمار والخراب الذي طال العديد من المعامل والمنشآت الصناعية وتوقف المشاريع الاستثمارية، وفقدان ملايين السوريين أعمالهم ومساكنهم ومعظم ممتلكاتهم ومدخراتهم، نقف أمام أهم الأسباب التي أحدثت تبدلاً في واقع الطبقة العاملة السورية، وأضعفت إلى حد كبير من حضورها ووعيها لنفسها كطبقة تحكمها شروط اجتماعية متشابهة ومطالب وأهداف مشتركة.

فيما سبق وخلال الصراع الذي شهدته البلاد أواخر السبعينيات، نجح النظام في كسب العمال لحسم صراعه مع الأخوان المسلمين عبر الاهتمام بتحسين أوضاعهم المعاشية ومنح قياداتهم النقابية حصة في الجبهة الوطنية التقدمية وفي مجلس الشعب، وعرفت البلاد وقتئذ رديفاً عسكرياً لقوات النظام عرف بالكتائب العمالية المسلحة، أما اليوم فثمة إهمال في تفعيل هذه الطبقة الاجتماعية وتجييرها كقوة قائمة بذاتها، قد يعود السبب ربما الى أن النظام يدرك أن توغله المريع في العنف والقتل والتدمير لا يتوافق مع أخلاق هذه الطبقة وما صارت اليه أحوالها، أو ربما لأن استمرار حربه بات يستدعي مزيداً من الاستقطاب المتخلف والاندفاع الى صياغة مؤسسات الدولة والاصطفافات الاجتماعية على أساس العصبية الطائفية والولاء السلطوي، أو ربما لعجزه عن استمالتها بعد فظاعة ما أوقعه في صفوف العمال من ظلم وقهر، والأسوأ من تمييز ليس تبعاً لكفاءاتهم ومؤهلاتهم، بل تبعاً لمنبتهم وانتماءاتهم الطائفية والسياسية وحتى تبعاً لأماكن تواجدهم ومشاعرهم من الأحداث الجارية في البلاد.

والحال، إذا تجاوزنا ارتفاع نسبة البطالة التي وصلت مع تطور الصراع وطول أمده إلى ما يضاهي الخمسين في المائة من حجم قوة العمل، وتجاوزنا أيضاً سوء شروط الحياة والأوضاع المعيشية للعمال وأسرهم مع انحسار الخدمات وتواتر موجات الغلاء الفاحش، يمكن أن يلمس المرء، في مناطق سيطرة النظام، في مؤسسات الدولة أو مرافقها العامة وما تبقى من منشآتها الصناعية، كيف تم تحويل العمال الموالين إلى أدوات حرب وفتك وتنكيل، بينما بات العمال الذين يشك بولائهم عرضة للطرد والتسريح التعسفي وأحياناً للاعتقال على الشبهة أو تبعاً لوشاية مغرضة، وتلعب التقارير الأمنية دوراً حقيراً في التنكيل بأي عامل يبدي امتعاضاً من العنف السلطوي المفرط أو يظهر بعض التعاطف مع الضحايا والمنكوبين.

في المقابل، لم يعد من أثر للوجود العمالي النمطي في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، فليس هناك معامل تعمل ولا مصانع تدار، وأصبح كل شيء منوطاً بالفاعلية العسكرية للمعارضة المسلحة وأشكال تقديم الدعم لها، وإذا كان ثمة ما يشير إلى وجود القوى العاملة، فمن خلال من يفترش الساحات بحثاً عن شغل مؤقت يوفره عابر سبيل يحتاج إلى جهد عضلي، ومن خلال من يجالدون لتأمين وبيع السلع الأساسية المفقودة، كالخبز والمواد الغذائية والأدوية والغاز، لعلهم يجنون بعض المال لإعانة أنفسهم وأسرهم، أو من خلال التنطح لأعمال شائكة كإصلاح ما تهتك من المنازل وترميم بعض الشبكات الخدمية، أو من خلال بعض الرموز النقابية التي عادت إلى الظهور مجدداً بعد أن عانت الأمرين من ظلم النظام لقاء إصرارها على استقلال العمل النقابي.

أما العمال في بلدان اللجوء وقد أصبحوا بمئات الألوف فلهم قصص أكثر ايلاماً، وقد باتوا يتعرضون بحكم منافستهم لليد العاملة هناك لمختلف الاساءات والإهانات وربما للترهيب والخطف والترحيل وأحياناً القتل، وهم مكرهون على القبول بأسوأ شروط العمل إن لجهة النوعية حيث يضطرون لقبول أشغال لا تليق بالآدمي أو لجهة ساعات العمل الطويلة أو لجهة الأجر البسيط الذي يتحكم به صاحب العمل ويفرضه كيفما شاء مستنداً إلى وفرة العرض والى سهولة تأمين البدائل، هذا من دون إغفال الانحرافات التي يفرضها العوز على بعضهم وجنوحه للحصول على حاجاته بطرق غير مشروعة.

صحيح أن ثورة السوريين أعادت الروح الى القيم الجمعية ووحدت البشر حول رفض الذل وإعلاء كرامة الانسان وحريته وحقوقه، وصحيح أن هذه الثورة تعرضت لهزيمة عبر أعداء كثر، وحشية النظام وبربرتيه، الجماعات الاسلاموية المتطرفة، ضعف المعارضة الوطنية وتفككها، التدخلات الخارجية السافرة والمضمرة، لكن الصحيح أيضاً، أن دوافع الثورة، ضد القهر والظلم والفساد، لا تزال قائمة، بل تزداد اليوم حضوراً ووضوحاً في صفوف “الطبقة العاملة” الأكثر عرضة للاستغلال والاضطهاد، تحدوها عظمة التضحيات التي قدمها الشعب السوري دفاعاً عن حقوقه البسيطة، وتؤكدها تجارب الشعوب وحقيقة ما تضمره من إمكانات وفرص على النهوض من انكساراتها وهزائمها.

شارك المقال