عودة سورية إلى لبنان… من يعترض؟

أنطوني جعجع

هل تكون أي عودة سورية إلى لبنان، سواء عسكرية أو مخابراتية أو سياسية أو استراتيجية، مشابهة لذلك الدخول الصارخ الذي شهده لبنان خلال “حرب السنتين” في منتصف سبعينيات القرن الماضي؟

الجواب طبعاً لا، ليس لأن سوريا ليست قادرة، أو حتى راغبة في ذلك، بل لأن ثلاثة أمور أساسية وجوهرية تغيرت بشكل دراماتيكي:

أولا، أن سوريا السبعينيات ليست سوريا 2021 وعلى كل المستويات ومن دون أي استثناءات؛

ثانياً، أن لبنان الفترة عينها لم يعد هو نفسه على مستوى الدور والحكم والجبهات والأحزاب والقيادات والمحاور والحلفاء والأعداء؛

ثالثاً، أن المشهد العالمي والإقليمي تغير بشكل دراماتيكي في الكثير من المعطيات والحسابات، إذ إن ما كان مبرراً أو مقبولاً قبل أربعين عاماً، بات ملتبساً أو مفخخاً أو هشاً، أو أكثر عرضة للسقوط منه إلى الصمود، وأن ما كان حاجة ًاستراتيجية في إطار الحرب الباردة، لم يعد كذلك في إطار توزيع المغانم والغنائم والنفوذ والأدوار.

في العام 1976 وقفت أميركا وإسرائيل وسوريا أمام ثلاثة ممنوعات أحلاها مر، لا سيما بعدما أصبح المقاتلون المسيحيون في وضع عسكري هش يهدد وجودهم الكياني لمصلحة الدولة الفلسطينية البديلة، فانتقلت أعمال المواكبة من الحرص على بقاء حرب الاستنزاف إلى الحرص على تصويب مسار الحرب نحو مسار آخر يرضي الأطراف الثلاثة.

وقد ساعد على هذا التبدل ثلاثة تطورات دراماتيكية:

إن إسرائيل، التي كانت ترفض التدخل مباشرة ما دام المسيحيون قادرين على الصمود في مواجهة المسلحين الفلسطينيين ومنعهم من إقامة كيان فلسطيني مسلح على حدودها الشمالية، بدأت تبحث عن أي ذريعة لتطويق ياسر عرفات “المنتصر” واحتواء البندقية الفلسطينية؛

إن أميركا التي كانت تستغل الأتون اللبناني للحد من النفوذ السوفياتي، المقترب من شواطئ البحر الأبيض المتوسط، أدركت أن إطالة أمد الحرب اللبنانية لن يكون في مصلحة المعسكر الغربي، فلجأت، على غرار حليفتها إسرائيل، إلى بديل آخر تبين سريعاً أنه البحث عن قوة عسكرية حاسمة قادرة على ضبضبة الملف اللبناني، ولو في شكل موقت أو متقلب في أفضل الأحوال؛

إن سوريا، التي كانت تعتبر الحرب اللبنانية مدخلاً طبيعياً لها إلى الجار الصغير الذي يهدد نظامها الحاكم من جهة، ومصالحها الأمنية من جهة ثانية، وبنيتها الديموغرافية من جهة ثالثة، خرجت على الإطار المرسوم، وتحولت من مشروع تجريد اليمين اللبناني من أنيابه ومخالبه، تمهيداً للسيطرة على هذا البلد، إلى منع إقامة دولة فلسطينية سنية يقودها ياسر عرفات على حدود سوريا، ويتحول مع الرئيس صدام حسين إلى ثنائي سني يهدد النظام العلوي في دمشق.

هذا التوافق غير المباشر بين الأطراف الثلاثة، إضافة إلى مباركة عربية شبه شاملة، كلف سوريا تنفيذ المهمة، تحاشياً لحساسيتين مفرطتين تتمثلان في أن العرب لن يقبلوا بأي دخول إسرائيلي على خط الحرب اللبنانية، وأن الأميركيين لم يكونوا في وارد التورط في أي كباش مباشر مع الاتحاد السوفياتي، الذي رمى بثقله خلف المنظمات الفلسطينية والأحزاب الاسلامية واليسارية التي كان يقودها كمال جنبلاط.

من هنا يمكن فهم المعارك الدموية التي خاضها الجيش السوري مع المنظمات الفلسطينية، التي كانت ترى فيه عقبة على طريق الدولة البديلة، وفهم الأسباب التي أدت إلى اغتيال كمال جنبلاط الذي رأى فيه ما سحب لقمة الحكم من فمه في اللحظة الأخيرة.

لقد كان الرئيس السوري حافظ الأسد على استعداد لاتخاذ كل أنواع المخاطر، وكل أنواع الممارسات بغية التمدد في لبنان، بعيداً من أي منافسات داخلية من أي نوع ومن أي مساءلات أو مواجهات خارجية من أي نوع.

هذا في العموميات، التي لن نتوسع في معالجة تطوراتها اللاحقة وتقلباتها وحروبها وأخطائها ومجازرها، ونكتفي بالعودة إلى سوريا اليوم وما يحكى عن سعي سعودي لإعادة الرئيس بشار الأسد إلى بيروت، إن لم يكن على متن دبابة فعلى متن توافق محلي – إقليمي- دولي لن يتحفظ عليه الرئيس ميشال عون على المستوى الرسمي، ولن تعترض عليه إسرائيل على المستوى الإقليمي، ولن تخالفه أميركا على المستوى الدولي، كلٌ لأسباب خاصة به تتباين في مكان وتتفق في مكان آخر.

فالرئيس ميشال عون يرى في التفاهم مع الأسد، العائد تدريجاً إلى الحظيرة العربية والمدعوم من الاتحاد الروسي، والحاكم الذي يملك من “القبول” أكثر مما تقبله القوى التكفيرية في مكان، والثورة الإسلامية في آخر، يشكل رافعة مهمة في معركة الرئاسة المقبلة، وتحديداً في معركة صهره جبران باسيل الذي لم يتوانَ، ومن موسكو بالذات، عن الإشادة بالرئيس السوري بطريقة لم تلقَ ارتياحاً في الأوساط الإيرانية التي ترى أن الرجل بدأ القفز فوق الحواجز التي أقامتها من خلال “حزب الله” في لبنان.

وإسرائيل، التي عايشت تجربة مريحة مع آل الأسد في الجولان، لن يصعب عليها الاختيار سريعاً بين “نفوذ معتدل” يمارسه الأسد في الفسيفساء اللبنانية، وآخر متطرف ينفذه السيد حسن نصرالله باسم ولاية الفقيه الساعية إلى تطويق الدولة العبرية من الجهات السورية واللبنانية والفلسطينية، وإقامة هلال من طهران إلى البحر المتوسط معزز بصواريخ بالستية دقيقة وطويلة المدى وقنبلة نووية على الطريق.

والولايات المتحدة، التي تجد نفسها بين نظام سوري جردته الحرب الداخلية من مخالبه، وجمهورية اسلامية تنشب مخالبها في غير مكان، ترى في بسط نفوذ سوري في لبنان أمراً مثمراً على أكثر من صعيد، ويمنع إيران من البقاء لاًعباً وحيداً في هذه الدولة التي تحولت مصدر خطر لا يهدد اسرائيل وحسب، بل استقرار الشرق الأوسط برمته، ومنصة واسعة لتبييض الأموال وتهريب الممنوعات، ونشر الخلايا الإرهابية على مستوى العالم، وخزاناً من المقاتلين المحترفين الجاهزين للدخول في أي حرب تأمر بها إيران من دون أي تحفظ أو تردد.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يبدو الأمر بهذه البساطة أو بهذه السهولة، وهل يمكن أن يأخذ مكانه بسلاسة مطلقة أو على الأقل بتأشيرة شبه جامعة؟

في قراءة سريعة للمشهد اللبناني منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان، يمكن الإضاءة على عوامل عدة بعضها لا يشكل عائقاً وبعضها الآخر هو العائق نفسه ومنها:

أن الجيش السوري لم يعد بالقوة نفسها التي كانت لديه في السبعينيات، خصوصاً بعد الضربات القاسية التي تلقاها خلال الحرب المستمرة منذ العام 2011؛

أن هذا الجيش منشغل حتى رأسه بحماية النظام أولاً، والاحتفاظ بالمناطق التي استعادها من المعارضة التي لا تزال تتحرك في أكثر من مكان، وتبقي النيران السورية مشتعلة ولو على تقطع؛

أن هذا الجيش لا يستطيع أن ينتشر في أكثر من مكان، وبات بقيادة بشار الأسد أمام خيارين: إما ديمومة الحكم العلوي وإما الهيمنة السنية وما يتبعها من روافد عربية وإسلامية من هنا وهناك؛

أن هذا الجيش يشعر بعقدة نقص لم تكن لديه في العام 1976، فهو يعرف في قرارة نفسه أنه مدين ببقائه لأربعة عوامل أساسية، هي: أولا دور حزب الله و”الحرس الثوري” الإيراني والميليشيات الشيعية الآتية من أفغانستان والعراق وسواها، وثانياً الدعم الحاسم الذي جاء في اللحظة الأخيرة من القيادة الروسية، وثالثاً غارات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وعملياتها النوعية التي أرهقت القوة العسكرية الداعشية وقتلت زعيمها أبو بكر البغدادي، ورابعاً التراجع الدراماتيكي في تماسك القيادة السياسية لقوى المعارضة التي عجزت عن تأمين بديل لا يكون قمعياً كآل الأسد ولا تكفيرياً كالقوى الأصولية.

ولا تبدو القيادة السياسية السورية أفضل حالاً، فهي تعاني عزلة عربية وإقليمية ودولية قلَّ نظيرها وحولتها من شريك في الكثير من المفاصل الأساسية إلى مجرد حضور شكلي في قصر المهاجرين عالق بين مصادر إحراج عدة:

النفوذ الإيراني المتزايد وما يستتبع ذلك من نقص في صنع القرار من جهة، وخربطة الكثير من التفاهمات والتسويات التي أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد من جهة ثانية، ومواجهات اقتصادية وديبلوماسية مع المجتمعين العربي والدولي من جهة ثالثة، إضافة إلى سيف العقوبات الأميركية الخانقة من جهة رابعة؛

عدم الرغبة في بقاء الروس في مراكز القرارات العسكرية والسياسية والاستراتيجية وحتى القيادية، وما يستتبع ذلك من تباين مع الإيرانيين المتهالكين على عدم تفكيك هلالهم الشيعي من جهة، ومن تضارب مع الولايات المتحدة التي يزعجها التمدد الروسي في الشرق الأوسط ولا سيما في البحر الأبيض المتوسط؛

عدم القدرة على فرض أي شروط على “فرق الانقاذ” التي تتعامل مع الرئيس بشار الأسد على أنه المتلقي وليس الآمر؛

عدم القدرة على الصمود وهو العالق بين عاملين ضاغطين: عامل إيراني يتمسك بالبقاء في سوريا على حدود إسرائيل والاحتفاظ بورقة عسكرية تتكامل مع الورقة اللبنانية القريبة، وعامل إسرائيلي يرفض التهاون مع هذا الوجود ويخير الأسد بين واحد من ثلاثة خيارات: أولاً الطلب رسمياً من الإيرانيين وحلفائهم الانسحاب من بلاده، والدخول ثانياً في مفاوضات تطبيع مع تل أبيب على غرار ما فعلت البحرين ودولة الإمارات والسودان والمغرب، والتورط في حرب مباشرة طالما عمل على تحاشيها.

وهنا نعود إلى السؤال الأول: هل يمكن للسوريين العودة إلى لبنان من دون عراقيل أو ألغام أو تباينات أو محظورات؟

الجواب يعود إلى أسباب سياسية واقتصادية ولوجستية ومذهبية وطائفية عدة تحول كلها دون تكرار تجربة السبعينيات، لكن العائق الرئيس يكمن في مكان آخر، وهو الضاحية الجنوبية التي تحولت جغرافياً إلى صانع القرارات اللبنانية في شكل منفرد وقائدها السيد حسن نصرالله الذي تحول إلى زعيم مطلق النفوذ والصلاحية لا يعارضه أحد ولا يتجرأ عليه أحد.

لماذا “حزب الله”؟ بكل بساطة لأن حسن نصرالله يؤمن في كواليسه أنه هو من أنقذ بشار الأسد ومنعه من السقوط في بدايات الحرب السورية، عندما دفع بآلاف من مقاتليه إلى الداخل السوري لمؤازرة النظام المحرج والجيش المفكك والمتهالك، وأنه لن يرضى بأن يتحول الدائن إلى مدين أو على الأقل إلى شريك في الأرباح.

أضف إلى ذلك أن “حزب الله” عمل منذ انسحاب الجيش السوري في العام 2005 على إلغاء أي شريك محتمل في أي نفوذ أو موقع أو قرار لا تكون الكلمة الفصل فيها للنظام الحاكم في إيران، وأنه لن يكون مستعداً للعودة إلى المظلة السورية التي ضربته في السابق في مكانين موجعين: الأول عندما ناصرت حركة “أمل” في البيئة الشيعية وأرسلت رجاله جثثاً هامدة في شاحنات، كانت بمثابة رسائل مباشرة لكل من يعارض أو ينافس آل الأسد في لبنان، والثاني أن سوريا كانت تمنع إشراك “حزب الله” في السلطة التنفيذية بقرار أميركي وتكتفي بحصته الهشة في السلطة التشريعية… وأكثر من ذلك، يعرف الحزب أنه يتعامل مع نظام لا يؤمن بالندية ولا يتوانى عن أي شيء للمحافظة على مصالحه واستمراريته ولو اضطره الأمر إلى التخلص من حلفائه أو التصالح مع أعدائه.

وأكثر من ذلك، يعرف “حزب الله” أن سوريا تركته وحيداً في “حرب تموز” على الرغم من الضغط الذي مارسته إيران على الأسد للدخول في الحرب التي كانت تهدد المقاومة الاسلامية في سلاحها ووجودها. ويعرف أن الأسد يقول في العلن ما لا يقوله في الكواليس، وأن حسن نصرالله بات في الحسابات الإقليمية والدولية أكثر تأثيراً ونفوذاً من الرئيس السوري، وأكثر خطراً على أمن المنطقة من كل عوامل التفجير فيها، وأكثر مهابة من الجيوش العربية مجتمعة، وأكثر حضوراً في الهلال الشيعي ربما من الإمام خامنئي نفسه.

أكثر من ذلك لا بد من السؤال: هل يستطيع الأسد الدخول إلى لبنان من دون مواكبة روسية تحتاج إلى مباركة أميركية في الدرجة الأولى وضوء أخضر إيراني في الدرجة الثانية؟ الجواب ليس صعباً، إذ إن موسكو لن تعطي الأسد في لبنان ما لم تعطه إياه في بلاده وأنها لن تتقاسم مع إيران في لبنان ما لا تطيق تقاسمه معها في سوريا.

ولن نعدد هنا العوائق الأخرى وفي مقدمها البيئة السنية، التي لم تنس بعد اغتيال رفيق الحريري ومعظم قياداتها السياسية والأمنية والإعلامية على مدى السنوات الأربعين الماضية. وكذلك الذاكرة المسيحية المتمثلة هذه المرة بحزبي “الكتائب” و”القوات اللبنانية”، إضافة إلى المجتمع المدني، فقط لأن هذه المجموعات لا تبدو قادرة على المستوى العملي على إطلاق الكلمة الفصل حيال أمر بهذه الخطورة وهذه الحساسية وسيكتفي دورها في ضجيج لا يثمر في أي مكان.

وقد يسأل البعض ماذا يفعل السعوديون في دمشق إذاً؟ ولماذا يسعون إلى تعويم النظام السوري وإعادة دمشق إلى الحظيرة العربية؟ وماذا يفعلون في بغداد إلى طاولة تجمعهم مع مسؤولين إيرانيين؟ وماذا يفعل الإيرانيون في فيينا على هامش تجمع يضم مفاوضين أميركيين؟

الجواب، أن السعوديين ربما يريدون من دمشق أمرين أساسيين: سحبها من الهلال الإيراني في مقابل المساهمة في إعادة الإعمار وفك العزلة العربية والدولية، ووقف أعمال التصنيع والتهريب التي تكاد تغرق الخليج بكل أنواع الممنوعات الخطيرة، وفي مقدمها شحنات الكبتاغون، إضافة إلى تقليص حركة “حزب الله” والعمل للحد من عمليات التشيع التي تطاول الكثير من السكان السنة في البلاد.

وسط هذه الأجواء نصل إلى خلاصة فيها الكثير من الاحتمالات، وهي أن الأسد ونصرالله يعرفان أنه يمكنهما القتال في مكان واحد لكن ليس الحكم في مكان واحد، وهي أيضاً أن “حزب الله” قد يجد نفسه “رأس حربة” في مواجهة العودة السورية إلى لبنان، تماماً كما حاول عرفات أن يفعل في 1976، وأن النظام السوري قد يجد نفسه أمام خيارين، إذا وافق على تكرار عودة ٍ لن تكون اقتصادية وهو المفلس أصلاً ولا سياسية وهو المرفوض حكماً، وهما زج جيشه في مواجهة غير محسومة، والتخلص من نصرالله تماماً كما تخلص من جنبلاط وبعده من بشير الجميل وبعدهما من رفيق الحريري… فهل يُقدم؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً