يقال للمريض صوّت لتتخلص من السرطان الإيراني

عبدالوهاب بدرخان

للبنانيين حضورٌ على كل الخرائط منذ هجراتهم القسرية القديمة والحديثة وصولاً الى الأزمة الراهنة، أما لبنان فبات الآن إمّا على الخريطة الإيرانية أو على خريطة صندوق النقد الدولي، ولم يعد يُحتسب في الدراسات الخاصة بالناتج المحلي واقتصادات الشرق الأوسط، إسوة بسوريا واليمن، فالناتج شيء لا يُذكر والاقتصاد يدار بفضل ماكينات الفساد الممأسس والميليشيات، ولولا حدّ أدنى من وجود الدولة لأًلحق العراق بهذه الدول، المتشاركة بأمرين: الأول، أنها تعاني من السرطان الإيراني، الذي رفد استشراء السرطان الأسدي في سوريا، وفاقم أمراض الفساد والتخلّف في لبنان واليمن ليقودهما الى انهيار أو الى زوال. والآخر، أنها باتت تُعرف كمجرّد “أوراق” على خريطة النفوذ الإيراني.

رغم حضور بارز وأحياناً متقدّم للبنانيين في عالم الأعمال، ورغم سباحتهم في بحور السياسة، إلا أن المواسم الانتخابية تُظهر هزالهم وتخلّفهم السياسيين، بمقدار ما تُظهّر تشبّثهم بانتمائهم الطائفي لا الوطني، وبأوهامهم عن “محاصصة طوائفية” يعتقدون أنها “ديموقراطية”، بل حتى “خصوصيتهم الديموقراطية”. ولعلّها كانت كذلك لفترة زمنية محدودة، الى أن زعزعها تشابك التناقضات الداخلية مع التدخّلات الخارجية لا سيما تلك الإسرائيلية التي تحوّلت الى احتلال جزئي تلاشى تدريجاً، وما لبث أن مهّد للاحتلال الإيراني الكلّي الذي أجهز على كلّ مقوّمات الدولة والاستقرار في لبنان.

كل التدخّلات استغلّت التناقضات الطائفية لكنها تركت نوعاً من التوازن الداخلي الذي يراعي مصالحها من جهة، ولا يسمح من جهة أخرى لأي طائفة بالهيمنة على بقية الطوائف لئلا يتهدّد العيش المشترك ومن ثَمّ وجود الدولة، فتضيع مصالح الجميع. إلّا الاحتلال الإيراني فهو لم يحترم أي توازنات ليغلّب مصالحه وحده. ربما يمكن رؤية الوضع الحالي على أنه هيمنة للطائفة الشيعية، أو – للدقة – لحزبين شيعيين متضامنَين متكافلَين متماهييَن بلا أي تمايز ملموس، إلا أنها واقعياً هيمنة لإيران من خلال سلاح بدأ بمقاومة العدو الاسرائيلي وانتهى عدوّاً للوطن والشعب ولن يُعترف يوماً بشرعيته أياً تكن الظروف، وهذا السلاح الذي يصادر الدولة والسيادة يريد أصحابه دسترة تخريبهم للكيان اللبناني، عبر صندوق الاقتراع. دخل “التيار العوني” مغامرة الاستثمار في هيمنة “حزب إيران” ليهيمن بدوره على المكوّن المسيحي، ومع أنه خسر الرهان ولم يجنِ من تحالفه مع هذا “الحزب” سوى فشل رئاسة ميشال عون إلا أنه يكابر ولا يعترف.

والواقع أن “حزب إيران/ حزب الله” استتبع “التيار العوني” لشرذمة الالتزام المسيحي بالوطن والدولة، كما استخدم أطرافاً هامشية لاختراق المكوّنَين السنّي والدرزي، ونجح في ذلك بمساهمة من نظام دمشق ومشاركة تبعية كاملة لعناكب السياسة ومتطفّلين على الشأن العام، وطبعاً بتغطية من أسوأ قانون للانتخاب يمكن أن يتصوّره أي عقل تشريعي عفن. كان هذا القانون الأخرق هو الذي ضمن حصول إيران على غالبية برلمانية، ومع أنه صيغ بهدف “تصحيح” التمثيل الخاص بكل طائفة، خلافاً لمنطق العيش المشترك وضروراته، إلا أن اليد الطولى لـ “الحزب” تسلّلت في كل الاتجاهات لسرقة هذا التمثيل وقضم أجزاء منه بأبشع وسائل الترهيب والتهديد والتخويف، بدءاً بـ”البيئة” أو الطائفة الشيعية نفسها وامتداداً الى البيئات الأخرى. منذ انتخابات 2005 و”انتفاضة السيادة” التي سبقتها و”حرب تموز” التي أعقبتها، ثم انتخابات 2009 التي جاءت بمثابة ردٍّ على “غزوة بيروت” في 7 أيار 2008، استطاع “الحزب” أن يكرّس نهج البلطجة للتحكّم نهائياً بالحكومات بـ”انقلاب القمصان السود” لإطاحة حكومة سعد الحريري بعد تغيير الغالبية عنوةً، ثم بتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية عامين ونصف العام، امتداداً الى استنخاب الرئيس الذي فرضه، ووصولاً الى قانون الانتخاب الذي فتح له أبواب هندسة تمثيل الطوائف والتلاعب به وتزويره.

في كل ذلك لم يكن هناك سرّ: إنه السلاح. وفي سياق الحملة الانتخابية الراهنة لم تُبق أبواق “حزب إيران” أي نوع من الفجور السياسي إلا ومارسته، من التخوين الى التخوين فالتخوين. ربطت الآخرين بالسفارات وكأن “الحزب” نبت من الأرض، أو أنها نسيت أن زعيمها كرّر جهره المتلفز بأن كلّ ما يملكه “حزبه” يأتيه من إيران. وأخيراً ذهب بعض أدوات “الحزب” الى الإفتاء بأن التصويت له ولمن اصطفاه من مرشّحين أتباع في المذاهب الأخرى هو “تكليف شرعي”، أي أنها صارت تعتبر فتاواها سارية أو فرض عين على اللبنانيين كافةً. وباسم هذا التكليف “الشرعي” أجيزت الاعتداءات على مرشحين غير مرغوب فيهم لإرغامهم على الانسحاب، أو لمنع أنشطتهم. وباسم ذلك التكليف أيضاً أجيز لجبران باسيل أن ينشر سمومه في كل المناطق. في المقابل تقول الأطراف الأخرى للناخبين إن البلد مبتلى بالسرطان الإيراني ولم يوجد له علاج بعد، لكن يُستحسن الاقبال على التصويت وبكثافة.

أشار التقرير الأممي الأخير عن الوضع في لبنان الى “إحباط عام”. وفي ظل هذا الإحباط ستجرى الانتخابات التي تريدها الأمم المتحدة “حرّة ونزيهة وشفافة وشاملة”، وفقاً للمصطلحات التقليدية المعروفة. لكنها لا تبحث جدّياً عن جذور ذلك “الإحباط” وأسبابه رغم إقرارها بأن “احتفاظ حزب الله بقدرات عسكرية كبيرة ومتطورة خارجة عن سيطرة الحكومة اللبنانية لا يزال يشكل مصدر قلق بالغ”. غير أن الإحباط يعني أن الأمر تجاوز مجرد القلق الى اليأس من إمكان أن يتلقى لبنان وشعبه أي مساعدة دولية حقيقية للخلاص من السرطان الإيراني. فحين يحثّ أنطونيو غوتيريش السلطات اللبنانية على “تكثيف مساعيها لاحتكار حيازة السلاح واحتكار استخدام القوة في جميع أنحاء أراضيها”، لا بدّ أنه يعلم أنه يقول ما يتمنّاه لا ما يعنيه أو ما تستطيعه الأمم المتحدة، فالمجتمع الدولي يميل دائماً الى “شرعنة” الأمر الواقع ما لم تكن هناك إرادة داخلية للتغيير.

شارك المقال