في توتر القوي

علي نون
علي نون

لا يفاجئ أحداً خطاب جماعة الممانعة الانتخابي، فهو مثل خطابها السياسي المدرّع باليقين الخاص، والمشبّع بالعداء للآخر المختلف، والمليء بذاته باعتبارها ذاتاً تامة كافية، ولا تحتاج الى أي إضافات ولا تبريرات ولا مقويات! هي الذات الفضلى والمالكة الحصرية لكل الحق، فيما غيرها هو كل الغلط وكل الشطط وكل الشر. ولا يختلف ذلك الغير، في عرفها ومنطقها، بهويته ولا نوعه ولا “عرقه” ولا غاياته. يكفي أنه على الجانب الآخر المواجه لها، كي يحظى بمرتبة الشيطنة الفضلى تلك، وكي يكون هدفاً للامحاء والإلغاء.

ولا مراتب في ذلك الخطاب. الكل المختلف ينضوي تحت مرمى مفرداته ولغوياته وأحكامه الصارمة والمبرمة. الخصومة المحلية ليست واردة فيه انما العداوة المكشوفة والمنجزة. ولا فرق هنا بين عدو خارجي وآخر داخلي! ولا لحظ لتمايزات، ولا مكان لاستطرادات غير مأنوسة خصوصاً اذا كانت من نوع أن الانتخابات النيابية مثلاً تجري داخل دولة واحدة، وعند شعب واحد، وفي ظل نظام واحد، والخصومة فيها عادية ومن ضرورات التعبئة والتحشيد. وهذه في جملتها وكليتها، تختلف بطبيعة الحال واستناداً إلى بديهيات المنطق البسيط والمعقّد عن المواجهات الضارية مع عدو على الحدود فيه كل “أسباب” العداوة وشروطها!

حزب ايران كان ولا يزال سبّاقاً في أدائه ذاك إزاء الداخل الوطني اللبناني. وإزاء كل قضية مطروحة أمام عموم اللبنانيين. وتوتره الدائم كان ولا يزال عنوان ذلك الأداء. وتعبيرات توتره هذا تأخذه الى غلاظة القول واستسهال التخوين، واعتبار التحشيد المذهبي تارة و”المقاوم” تارة أخرى، أمراً عادياً وتلقائياً طالما أنه ينتج عن يقين لا تشوبه شائبة، وموجّه الى آخر مختلف و”مخطئ” ولا تشوب خطيئته شائبة أيضاً!

وانعدام المراتب في نهج العداوة يعني أن “العدو” يمكن أن يكون، في الداخل، وداخل الداخل! في السياسة والانتخابات والرؤى والأفكار وعادات العيش وطبيعته. وهذا يعني أن الواقف على الجانب الآخر هو “في العادة” مختلف مذهبياً وطائفياً وسياسياً مثلما الحال في لبناننا العزيز… لكن المحنة الراهنة لا تقف عند هذا الحد بل تصل الى اعتبار كل مرشح للانتخابات النيابية حتى من ضمن الطائفة والمذهب، “حائزاً شرعاً” على الشروط التي تؤهله لعضوية نادي الأعداء!

وفي راهن الأمر، ظهرت في ما يسمى حملات انتخابية، قصص كثيرة عن تهديدات واستهدافات ميدانية لمرشحين من خارج المألوف الممانع وعلى الضد من حزب إيران وتوجهاته وسياساته… وظهرت في موازاتها حملة أشمل وأوسع طالت المصطفين الدائمين على الجانب الآخر، منذ العام ٢٠٠٥ وجريمة اغتيال الرئيس الراحل الشهيد رفيق الحريري… وفي الحالتين أداء واحد: الصف المضاد يعمل في “خدمة” إسرائيل! ومن يقترع لرموزه ومرشحيه وخطه “انما يقترع لاسرائيل وأميركا وداعش!”

ولا شيء يفاجئ في ذلك الخطاب. ولا جديد فيه سوى أنه تمدد من حزب إيران الى حلفائه. وصار هؤلاء في غالبيتهم ينهلون من مفرداته وغلاظته وغرابته ويوجهونها صوب الآخرين في داخل الداخل!… وفي هذا ابتذال ومحاكاة لقصة الذي فشل في أن يقلد عادات غيره فنسي عادته ولم يحصد في الحالتين سوى الخزي!

واللافت في الأداء العمومي للجماعة الممانعة في الحملة الانتخابية الراهنة هو التوتر الزائد عن المألوف، وكأنها مهزومة وهي تدعي الانتصار! أو كأنها تخاف من الناس وهي تدعي حمايتهم! أو كأنها تخشى انكشاف هشاشتها الداخلية وهي التي تظهر على الخارج ببنية مصارع! … أو كأنها تعرف في العمق والحقيقة أن خياراتها وسياساتها وارتباطاتها الايرانية أوصلت اللبنانيين ومن ضمنهم جمهورها الى العوز وليس العز! والى الذل وليس الفخر! والى الحضيض وليس العلى! والى الدمار وليس الإعمار! والى أشياء أخرى كثيرة تناقض سيرة الأمجاد والانتصارات الالهية، وتتوجس بالتالي من انكشاف ذلك كله في صناديق الاقتراع وبقوة الصوت العاري!

ثم يصحّ الظن بأن الجماعة اياها المسلحة والمدرعة والمؤدلجة، تشعر بالتوتر لأنها مضطرة الى أن تنخرط في عملية سياسية “مدنية” في ظل نظام لا تؤمن به! ولا تستطيع الانقلاب عليه بقوة السلاح وفي الوقت نفسه تسعى الى اكتساب “شرعيته”… تساير المناخ العام ولا تسير في ظلّه! وتشارك في “اللعبة ” ولا تحترم قواعدها. واذا خانتها النتيجة رجعت فوراً الى طبيعتها الأولى الذاتية والمغلقة والعصية على التطبيع المدني والسلمي والتعددي! وهذه والحق يقال، محنة جماعات الاسلام السياسي أينما كانت، وفي ظل أي نظام اشتغلت، وفي داخل أي مجتمع سعت… لكن المفارقة عندنا (والفرادة) هي أن الإسلام السياسي صار يشتمل على تيارات وشخصيات غير إسلامية! تشتغل عندها وتنضوي تحت جناحها وتسعى في فيئها الى أمجاد الانتصارات النيابية والرئاسية والامتيازات المتأتية عنها سلطوياً ومالياً!

شارك المقال