“حزب إيران” بلا غالبية و”تسويات” لكن بـ”ميثاقية” كاذبة مفكّكة

عبدالوهاب بدرخان

نجحت الدولة الفاشلة في تنظيم الانتخابات الأغرب في العالم، مع أنها لم تفلح بعد، على الرغم من مرور ثلاثة أعوام، في فرملة الانهيار المعيشي. سبقت الاستحقاق وتخللته مظاهر وظواهر زادته غرابة. مَن يشاهد الشاشات خارج لبنان لا يخيّل إليه أن الأمر يتعلق ببلد نُكِب بإحدى أعتى الأزمات الاقتصادية في التاريخ، أو فُجع بأحد أكبر الانفجارات غير النووية، أو أن غالبية شعبه سُرقت أموالها المودعة في المصارف ولا تزال مرغمة على طوابير الخبز والبنزين. تمكّنت طوابير التصويت، وبأقل من نصف الناخبين المفترضين، من انتاج برلمان جديد. التحدّي الأكبر أن تستطيع مراكز الاستطلاعات تحديد نسبة المقترعين بفضل المال الانتخابي، أما التحدّي الأصغر أي تحديد عدد المرشّحين الذين ظهروا “مجاناً” على القنوات فكان الأسهل، والجواب: صفر.

اللا-غالبية في المجلس النيابي المنتخب عنَت أن “حزب إيران/ حزب الله” فقد غالبيته السابقة، لكن زعيمه حسن نصرالله لجأ، كما بعد فشله في انتخابات 2009، الى سفسطة امتلاكه “التمثيل الشعبي” الأهم في نظره من “التمثيل النيابي”، ليؤكّد عدم اعترافه بأي غالبية ما لم تكن في خدمته وطوع أجندته الإيرانية. كان “الحزب” يطمح أقله إلى الحفاظ على الغالبية السابقة، وكان إعلامه القميء يبثّ البشائر الكاذبة بأنه سيكتسح بفعل تحالفاته وسيحصل على ثلثي المجلس ليعدّل الدستور ويهندس “جمهوريته” ويقيم نظامه. وعلى الرغم من فوز مرشحيه الشيعة فإن ضعف الإقبال الشيعي على التصويت كان الوسيلة الوحيدة لتوجيه “انذار” إليه، لأن الشيعة يعانون مصاعب العيش كسائر اللبنانيين ولا يطمئنهم أن يُعامَلوا كقطيع خانع يُرسَل الى الصناديق بـ “تكليف شرعي” أو أن يقال لهم إنهم بهذه الانتخابات يخوضون “حرب تموز” لكن وهمية. شهد “الحزب” لتوّه أولى سقطاته، إلا أن “دويلته” لا تزال قائمة بسلاحه غير الشرعي وقتلته ومهرّبي مخدّراته واقتصاده الموازي وشحنه المذهبي وامتثاله لـ”الحرس الثوري”.

ما ان ظهرت النتائج الأولية ثم النهائية حتى بدأت مفاعيل “التغيير”، بكل ألوانه، تسلّط الضوء على الرئيس “الدائم” للمجلس واحتمال أن تتعذّر إعادة انتخابه. على غير العادة، بدا نبيه بري الحلقة الأضعف في “الثنائي الشيعي”، والشخصية التقليدية التي تواجه رفضاً عابراً للأحزاب والطوائف: فـ”السياديون” والتغييريون” والمجتمع المدني لا يريدونه ولا يبحثون عن “تسويةٍ” ما لإعادة انتخابه، بل يشترطون في أي رئيس للمجلس “مواصفات” لم تعد تنطبق عليه. لماذا؟ لأنه متماهٍ مع “حزب السلاح” ومشروعه الإيراني، ولم يستطع يوماً أن يتميّز بموقف وطني واضح بوسطيته وفاعل بـ”ميثاقية” أصيلة لا مضلّلة، أو أن يُبقي “حركة أمل” في خط الإمام موسى الصدر ولا حتى في خط الشيخ محمد مهدي شمس الدين لتكون خياراً لبنانياً (وليس إيرانياً) للطائفة الشيعية. يُهاجَم نبيه برّي اليوم باعتباره الوجه الآخر لنصرالله. ربما لم يفقد الرجل المواصفات السابقة التي كان ينسبها إليه التقليديون كرجل تهدئة واطفائي حرائق سياسية وصانع تسويات ومحاصصات، لكن إعصار “كلّن يعني كلّن” عصف بمسيرته الطويلة وكشفه وحدّده كهدف أول للتغيير. حتى “التيار العوني”، حليف حليفه، الغارق في فساد الكهرباء يعيّر برّي بالفساد، ويبتزّه لإعادة انتخابه. ويكبر المأزق حالياً مع البحث – بلا جدوى – عن بدائل من برّي الذي حرص دائماً على تجريف البدائل.

سيبقى نبيه برّي رئيساً للمجلس، بصيغة أو بأخرى، لكن صورته كسياسي توفيقي في النظام تشوّهت وتهشّمت، وكان هو أول من أدرك ما يعنيه انكفاء سعد الحريري عن المشاركة في الانتخابات. فلا شريك سنّياً يمكن استغلال اعتداله والاختباء وراءه وعقد تسويات معه ثم الانقلاب عليه، أما “الشريك” المسيحي الذي كان يشكّل غطاءً لـ “حزب إيران” فقد تراجع تمثيله “الشعبي” وغدا “غطاؤه” واهياً، والآن يتّضح أكثر فأكثر كيف أن “الحزب” و”التيار العوني” وظّفا برّي في تعطيل المجلس مرّات عدّة، وكان ذلك أكبر خطاياه التي يدفع ثمنها الآن. كان “الحزب” يعتقد أنه أنجز تطويع الطائفة السنّية بالاغتيالات والترهيب، وبقانون الانتخاب الأخرق الذي شوّه تمثيلها بما سمّي “اللقاء التشاوري”. أي أنه أرادها مجرّد ديكور في “نظامه”، ولذلك كان “الحزب” يحبّذ مشاركة سنّية واسعة في الانتخابات وبالطريقة المعتادة التي يحصد، أو يظن أنه يحصد، عبر كتلتها الوازنة “شرعية” لسلاحه.

لا شك أن التراجع لمصلحة “القوات اللبنانية” أفقد “التيار العوني” كذبة ادّعاء الدفاع عن “حقوق المسيحيين”، لأن حليفه الإيراني شكّل ولا يزال يشكّل الخطر الأكبر على هذه الحقوق، فمطامع “الحزب” تتطلّع الى جعل المسيحيين طائفة ثانوية مثلما تحاول مع الطائفة السنّية. كل أطروحات “الحزب” و”حركة أمل” لـ “إلغاء الطائفية” ما هي سوى فقاعات يراد منها تكريس فوقية السلاح غير الشرعي وهيمنته وتسلّطه على الطوائف كافة وأولها الشيعية التي يجري التعامل مع مناطقها على أنها محتلة لا صوت فيها يعلو على صوت السلاح. هذا ما يُفهم أيضاً من أطروحات “المثالثة” أو إعادة توزيع المناصب الرئيسية في النظام أو حتى اللامركزية المفدرلة… كل شيء كان متاحاً في ظلّ التحالف الجهنمي بين “الحزب” و”التيار”، قبل أن تفرض نتائج الانتخابات مراجعة للأوهام.

أيّاً تكن الاعتبارات الطائفية أو السياسية لدى هذا الفريق أو ذاك، ليس منطقياً ولا وطنياً أن يعارض السنّة أو سواهم الطرف ونقيضه، “حزب إيران” وحزب “القوات”. الخيار الوسطي غير متاح حالياً، وإذا توفّر فهو يخدم هيمنة السلاح غير الشرعي، وبالقدر عينه يجب ألا يكون خيار المواجهة العنيفة متاحاً لأن هذا ما يبحث عنه “حزب إيران”. وفي الخيارات السياسية الممكنة لا بدّ من دعم “القوات” في توجّهه السيادي، ومن استقطاب الآخرين الى هذا التوجّه لأن أي تشويش عليه يصبّ تلقائياً في مصلحة “الاحتلال الإيراني”. ينبغي أن يعي الجميع أن “الحزب” سيستخدم “التيار العوني” و”حركة أمل” ليحكم بالتعطيل في المجلس والحكومة، ولا شيء يثنيه عن افتعال فراغ في رئاسة الجمهورية.

يبقى “التغييريون” الذين صنعوا الفارق الحقيقي في الاقتراع، فهؤلاء أثبتوا أولاً أن رياح “17 تشرين” ونبضها وروحها لا تزال فاعلة على أكثر من صعيد، لكن خلافاتهم وتمايزاتهم والخلفيات أو الارتباطات غير المعلنة لبعضٍ منهم تفرض انتظار مخاض توحيد كلمتهم وأجندتهم قبل الحكم على “التغيير” الذي يمثّلونه وعلى مدى فاعليته. الأكيد أن ثمة وجوهاً بينهم يُفتخر بوطنيتها واخلاصها ونظافة سمعتها، لكن وجوهاً أخرى تشي بأنها قد تكون “ودائع” للقوى التي لا تؤمن بأي “تغيير” في لبنان، ولا في سوريا وإيران.

شارك المقال