إيران تمتحن العالم… مَن يخضع أولاً؟

أنطوني جعجع

هل هي مصادفة عادية أن يتفاقم منسوب العنف في الشرق الأوسط في الأشهر القليلة الماضية، بحيث يعتبر المراقبون أن ما يجري يدخل في إطار الصراعات الروتينية المتقطعة التي تشهدها المنطقة من وقت إلى آخر؟

والواقع أن ما يجري بين غزة وإسرائيل لا يمت إلى هذه الصراعات بصلة حصرية، بل يرتبط بعاملين أساسيين: أحدهما نابع من قراءة نفسية والثاني نابع من قراءة عسكرية – سياسية.

في العامل الأول، يسأل المراقبون: هل كان يمكن لإيران أن تصّعد في اليمن والعراق ومياه الخليج وإسرائيل في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب كما تفعل الآن، في عهد الرئيس الحالي جو بايدن؟

يقول ديبلوماسي بريطاني إن العالم، شرقاً وغرباً، كان يتعامل مع البيت الأبيض على أساس أن “مجنوناً” يسكن فيه ويمسك بالزر النووي الذي قد لا يتردد في استخدامه، أي ترامب، الأمر الذي أسهم في لجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أبواب أوكرانيا، ولجم الصين على أبواب تايوان، وقطع قسماً طويلاً من الطريق أمام الترسانة النووية في كوريا الشمالية، وجعل إيران تراجع حساباتها على المستوى العسكري، فلم تنتقم لمقتل رجلها الأول قاسم سليماني، ولم تتحرك غداة الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولا غداة نقل السفارة الأميركية إلى المدينة المقدسة، ولم تفعل أي شيء دراماتيكي لحمل العالم على التدخل لإحياء الاتفاق النووي أو لرفع العقوبات، ولم ترد لا مباشرة ولا عبر “حزب الله” على الغارات الإسرائيلية التي أمطرت ترساناتهما ومواقعهما ورجالهما في سوريا، واقتصر الأمر عملياً على النظرية العربية – الإيرانية، القائمة على حق الرد في الزمان والمكان المناسبين.

في العامل الثاني، بات الإيرانيون منذ اللحظة الأولى التي رفع فيها بايدن العقوبات عن الحوثيين في اليمن، على اقتناع بأنهم يتعاملون هذه المرة مع رجل “عاقل” أو غير متهور أو غير حاسم، ومع رجل مدعوم من تيار أوروبي متعطش لإنهاء التوتر الإيراني – الأميركي في الشرق الأوسط بأي ثمن.

من هنا بدأت إيران سياسة جس نبض متدرجة، بدأت قبيل مفاوضات فيينا بإطلاق معركة مأرب في اليمن، في محاولة لدخول العملية السياسية مع الأميركيين من باب قوة، وكثفت القصف الصاروخي على المرافق الحيوية في السعودية، لامتصاص الضغط السعودي السلبي على الثورة الإسلامية الإيرانية، وواصلت التشدد في الموضوع الحكومي المتعثر في لبنان، وكل ذلك في شكل مدروس يلتزم حافة الهاوية ولا يقع فيها.

فجأة لم تعد الأمور كما بدأت قبل أربعة أشهر، لا سيما بعدما أظهر بايدن شخصية اكثر اهتماماً بحقوق المعارض الروسي الكسي نفالني في موسكو، وحقوق نجل جورج فرويد الذي قتلته الشرطة الأميركية، وقضية المعارض السعودي القتيل جمال خاشقجي، وسواها من حقوق الأقليات هنا وهناك، وأمور المناخ والبيئة واللاجئين إضافة إلى الاقتصاد وجائحة كوفيد ١٩.

ويقول ديبلوماسي غربي: كان كل شيء في المنطقة الرمادية عندما كانت مفاوضات فيينا تحمل في طياتها بعض الأمل، أو بعض المخارج التي يمكن أن تفك الخناق عن الاقتصاد الإيراني، قبل أن يتبين لاحقاً وتحت ضغط سياسي- أمني إسرائيلي من جهة، وضغط جمهوري من الكونغرس الأميركي، أن الأمور ليست في طريقها نحو انفراج سريع يرفع العقوبات تماماً، ويعيد الحياة إلى الدورة الاقتصادية الإيرانية ويقطع الطريق على نقمة الشارع الإيراني المتربص، في مقابل تسويات تقل هنا أو تكثر هناك.

ويضيف الديبلوماسي الغربي: إن ما تردد عن مرونة أميركية مع انطلاق مفاوضات فيينا، أثار مخاوف إسرائيل المنطلقة بقيادة بنيامين نتنياهو نحو انتخابات تشريعية رابعة في نحو سنتين ونصف، وفي غياب رئيس أميركي لم يعد يمنحها ما كان يمنحه سلفه دونالد ترامب، فلجأت إلى الرسائل العسكرية المتفرقة، وتحديداً عبر الأجواء اللبنانية نحو الأهداف الإيرانية في سوريا، ونحو العلماء الإيرانيين الفاعلين في مجال التسلح النووي، إضافة إلى إحراق أو تفجير الكثير من المواقع الأمنية الحساسة في عدد من المناطق الإيرانية، في شكل اثبت أن إسرائيل قادرة على الضرب في عمق إيران، وعلى منع أي طرف سواء أميركي أو أوروبي على فرض أي اتفاق مع إيران لا يحظى بتوقيعها.

لكن ثلاثة أمور رئيسة دفعت إيران إلى التخلي عن سياسة الرسائل المعقولة والمقبولة، أبرزها تعطيل مفاعل نطنز النووي في عملية نوعية نفذتها الاستخبارات الإسرائيلية، ثم عملية ثانية استهدفت موقعاً آخر في بوشهر، وهما أمران اعتبرتهما إيران، المتوجهة إلى انتخابات رئاسية الشهر المقبل، تقاعساً من المتشددين الدينيين والحرس الثوري معا من جهة، والشعرة التي قصمت ظهر البعير من جهة ثانية، خصوصاً أن الصاروخ الذي سقط في محيط مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي في صحراء النقب لم يردع الدولة العبرية، وثانيها وصول مفاوضات فيينا إلى طريق مسدود، وثالثها تكوين انطباع شبه اجماعي بأن الانتقال إلى الضغط العسكري، لا سيما ضد إسرائيل، سيؤدي إلى أمرين ايجابيين

– أن العرب سيجدون أنفسهم إلى جانب الإيرانيين في مواجهة العدو الإسرائيلي، وسيضع عرب التطبيع أمام واقع محرج يقطع الطريق على أي تطبيعات إضافية.

– أن أميركا في عهد بايدن ستجد نفسها أمام خيارين: إما إرضاء إيران برفع بعض العقوبات وإما المخاطرة بتفجير الشرق الأوسط عن آخره.

وأكثر من ذلك، لم توفر إيران الولايات المتحدة نفسها فكثفت عمليات التحرش بالسفن الحربية الأميركية في مياه الخليج، على الرغم من علمها أن توازن القوى ليس في مصلحتها جواً وبحراً، وأبقت على الضغط الصاروخي المتواصل على السعودية على الرغم مما تردد عن مفاوضات بين الطرفين تحت رعاية عراقية، وزادت من العراقيل في وجه تشكيل حكومة إنقاذ في لبنان، بعدما أحبطت المبادرة الفرنسية ودمرت النظام المصرفي اللبناني، وحولت هذا البلد إلى منصة صاروخية مصوبة على رأس إسرائيل، وإلى جزء أساسي من المنظومة الإيرانية وليس من المنظومة العربية أو العالمية، وهو ما يفسر العودة الأميركية إلى سياسة العقوبات على رجال “حزب الله” كما حدث أخيراً في الخطوة التي طاولت سبعة من مسؤوليه الماليين.

وهنا لا بد من السؤال: هل قررت إيران المضي في سياسة اللعب على حافة الهاوية سواء مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وذلك من خلال الضرب في الخواصر بعيداً عن الرؤوس، أم أن الأمور أفلتت من عقالها وباتت السيطرة عليها أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

الواضح حتى الآن، أن إيران تتصرف كطرف غير قادر على تحمل العقوبات أكثر ولا على ضبط أعصابها أكثر، ولا على تهدئة حلفائها أكثر. وأن إسرائيل المصدومة بالرد الإيراني، دخلت في حالة أمنية لم تشهدها من قبل، فهي لم تعد قادرة على العيش قرب ترسانة صاروخية تديرها إيران في غزة وأخرى تديرها في لبنان. وأن الولايات المتحدة سرعان ما وجدت نفسها أمام طرف يريد كل شيء من دون أن يخسر شيئاً. وأن العرب وجدو أنفسهم أمام إدارة أميركية لا يستطيعون الرهان عليها كما كان الأمر في عهد ترامب، وأمام تطبيع مع دولة تنقض على عرب فلسطين وترفض أي تسوية في موضوع القدس، إضافة أمام حركات أصولية فلسطينية توالي طهران و”حزب الله” أيديولوجيا وعسكرياً وسياسياً.

وأخيراً، لا بد من السؤال: هل تستطيع إيران المضي قدماً في حرب الصواريخ ضد إسرائيل من دون أن يتطور الأمر إلى مواجهة مباشرة يشارك فيها “حزب الله”؟ وهل تستطيع إسرائيل أن تتغاضى عن كسر هيبتها، ليس في لبنان هذه المرة بل في عقر دارها؟ وهل تستطيع أميركا أن تقف في الوسط بين اتفاق نووي تطمئن إليه إيران وتخاف منه إسرائيل وعرب الخليح، خصوصاً بعدما لمست أخيراً أن إيران تفاقم الأزمات في الشرق الأوسط أكثر من حلحلتها؟

حتى الآن، يبدو أن الشرق الأوسط بات أمام معادلة واحدة تنقسم بين طرفين: إيراني لن يرضى بأقل من رفع العقوبات عن آخرها، وإسرائيلي لن يرضى بأقل من نسف البرنامج النووي الإيراني عن آخره وتفريغ الترسانة الصاروخية الإيرانية في لبنان وسوريا وغزة.

وحتى الآن، أيضاً يرى المراقبون أن بايدن قد يبدو بالنسبة للناخبين الأميركيين خياراً داخلياً جيداً، خلافاً لجزء كبير من عالم منقسم بين طرفين: طرف يرى فيه فرصة يمكن التنفس من خلالها، وطرف يرى فيه حالة تحمل الكثير من صفات الرئيس باراك أوباما ولا شيء تقريباً من صفات دونالد ترامب.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً