رحلة لبنان من “الانتصار” إلى… الانهيار!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

في 25 أيار عام 2000 إنسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في سابقة هي الأولى منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية، إذ لم يسبق لهذا الكيان الدخيل على المنطقة أن إنسحب من أرض عربية محتلة بفعل المقاومة بغض النظر هنا عن مدى ملاءمة الظرف الإقليمي والدولي لهكذا خطوة يومها، والذي لعب دوراً فيها بلا شك، وإن كان هذا لا يقلل من دور المقاومة في تحقيق هذا الإنجاز بعد 22 عاماً من الإحتلال حملت الكثير من الآلام والمعاناة للناس في الجنوب ولبنان عموماً.

كانت الآمال كبيرة يومها بأن يكون هذا الإنتصار بداية فك أسر لبنان من مشكلات المنطقة وعزله عن تداعياتها، ومن ثم عودته الى الحياة الطبيعية يتأثر ويؤثر في مشكلات المنطقة كغيره من الدول من دون أن يكون أسيراً لها بحيث تتعطل الحياة فيه ويصبح ورقة من الأوراق يتلاعب بها الأفرقاء كل من جانبه ولمصلحته السياسية والإستراتيجية.

للأسف لم تتطابق حسابات الحقل اللبناني مع حسابات بيدر المصالح الإقليمية خاصة مع غياب الرئيس السوري حافظ الأسد عن الساحة بوفاته بعد حوالي أسبوعين من التحرير، وتولي إبنه بشار مقاليد السلطة في سوريا، وهو الذي بطبيعة الحال لا يملك حنكة أبيه ولا عمق قراءته للمتغيرات السياسية الداخلية اللبنانية وكذلك الدولية، فكان أن تجاهل هذه المعطيات ومنها إستحقاق إتفاق الطائف الذي نص على أن وجود القوات السورية في لبنان مرتبط في مكان ما بوجود الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، لاسيما وقد ترافق ذلك بعد أشهر عدة مع تولي المحافظين الجدد الإدارة الأميركية خلفاً لإدارة بيل كلينتون التي كانت قد باركت تسلمه الحكم خلفاً لأبيه وذلك عندما حضرت وزيرة الخارجية آنذاك مادلين أولبرايت الجنازة في لفتة لها مغزاها السياسي.

كانت البداية بوضع أرنب مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في التداول، لمحاولة تأخير الإستحقاق وطبعاً بتشجيع من الجانب الإيراني الذي رأى في تحرير الجنوب عبر المقاومة الإسلامية الممثلة بـ “حزب الله”، بداية الحصاد لسنين من العمل لترسيخ وجوده وتمدده في المنطقة العربية. على الجانب اللبناني كان الرد ببيان المطارنة الموارنة في أيلول من العام نفسه الذي دعا الى تطبيق الطائف وخروج القوات السورية من لبنان بعد الخروج الإسرائيلي، مدعّماً بعدها بتأسيس “لقاء قرنة شهوان” في نيسان من العام 2001، وهو اللقاء الذي أسس لاحقاً لـ “لقاء البريستول”، خاصة مع التطورات الخطيرة التي شهدها العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) التي ضربت الولايات المتحدة الأميركية في عقر دارها، وما تبعها من تداعيات أدت الى إحتلال أفغانستان ومن ثم غزو العراق وإحتلاله ما قوّى من شوكة إيران في المنطقة كمكون شيعي مقابل الضعف الذي ضرب المكون السني في مواجهة الإتهامات بالإرهاب والهجمة الناتجة عنها، التي جعلت من المكون السني وبالتالي العربي الحلقة الأضعف في المنطقة، ما أدى كذلك إلى إعادة إحتلال إسرائيل الضفة الغربية وإغتيال ياسر عرفات، وأدى مع تصاعد التوتر في لبنان غداة التجديد القسري لإميل لحود لمدة ثلاث سنوات، إلى زلزال 14 شباط 2005 حين سقط رفيق الحريري شهيداً على مذبح الوطن “عقاباً” له لدوره في تشكيل رافعة للمطالبة بإستقلال لبنان وتحريره بالكامل والخروج به من أسر الصراعات الإقليمية وتأثيرها على الأمن القومي العربي بأكمله.

كحال كل زلزال كان لإغتيال رفيق الحريري ورفاقه إرتدادات، فكانت ثورة الأرز التي أدت فيما بعد الى خروج الجيش السوري من لبنان، وكان التحرير الثاني والإنتصار الثاني في غضون خمس سنوات، والفرصة التي أضاعها اللبنانيون نتيجة عجزهم عن التفاهم، بسبب إرتباط البعض منهم بمشاريع إقليمية، والطموحات السلطوية لدى بعضهم الآخر، وبإلتقاء هذه العناصر ولد إتفاق مار مخايل الذي خيضت تحت غطائه حرب تموز 2006، التي أفرزت موازين قوى جديدة كان السلاح في صلبها، ودخل لبنان مرحلة جديدة من التجاذب على خلفية نتائج الحرب، والنزاع حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فكان إعتصام الوسط التجاري في بيروت ثم إستقالة الثنائي الشيعي من الحكومة، وأعقبها إقفال مجلس النواب لمدة سنة ونصف السنة حتى كانت أحداث أيار 2008 على خلفية قرارات حكومية ضد شبكة إتصالات “حزب الله”، وإجراءات ضد رئيس جهاز أمن المطار، وكان إتفاق الدوحة وما سببه من تعطيل دائم بعدها للمؤسسات ليكون بذلك بداية الطريق للإنهيار الذي وصلنا إليه اليوم بسبب البدع التي أدخلت على الحياة السياسية مثل الثلث المعطل، والوزير الملك وغيرها من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي عطلت الدولة وبالتالي الإنتاج في الداخل، إضافة إلى إنغماس “حزب الله” في الحروب الأهلية العربية وما تسبب به هذا الإنغماس من أضرار على علاقات لبنان العربية والدولية في الخارج، الأمر الذي كان لا بد من أن يصل بنا إلى الإنهيار ومن ثم إلى “جهنَم” العهد القوي الذي كان ثمرة كل هذه السياسات في الداخل والخارج.

هكذا تبخر حلم العودة إلى الحياة الطبيعية، والخروج من منطق الحرب الأهلية التي دخل لبنان نفقها منذ العام 1975 ولا يزال. كان الأمل بالإنتصار على الإحتلال الصهيوني، أن يكون نقلة نوعية في تاريخ لبنان، فإذا به يتحول إلى إنهيار في مفارقة غريبة عجيبة لم يحدث لها مثيل في العالم، إذ لم يحدث في التاريخ أن ينقلب إنتصار بهذا المستوى على عدو خارجي، إلى إنهيار داخلي بهذا الحجم، وسط لامبالاة من السلطة السياسية والقابضين عليها. هذا الإنهيار لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل كان تدريجاً ومتواصلاً على مدى سنوات طوال قطع فيها لبنان هذه “الرحلة” من الإنتصار حتى الإنهيار الذي وصل اليوم إلى مرحلة خطيرة، وليس هناك للأسف من مؤشرات الى قرب إنتهاء هذه الرحلة أو بداية العودة منها على الأقل. وما إنفجار السجال بين رئيس الحكومة ووزير الطاقة بعد أن دخلت الحكومة مرحلة تصريف الأعمال إلا عينة بسيطة مما ينتظرنا في الأيام والشهور المقبلة. فماذا بعد الإنهيار؟ وإلى أين يمكن أن تصل بنا هذه الرحلة؟ هذا هو السؤال الذي لا يعرف جوابه سوى الله والراسخين في علم “السياسة اللبنانية” الفريدة من نوعها في العالم.

شارك المقال