في ذكرى هزيمة حزيران!

اكرم البني
اكرم البني

على الرغم من مرور عقود من السنين، لكن لا يمكن أن تنسى عيون الرجال المغرورقة بالدموع وهم يتابعون أخبار الهزيمة والانكسارات العسكرية التي كانت تتكشف تباعاً في حرب حزيران عام 1967، وكيف بدت غالبيتهم كأنها لا تريد تصديق ما حصل، وتأبى الاعتراف بأن “اليهود” وهو الاسم الشائع لإسرائيل وقتئذٍ، قد هزموا جيوش العرب، واحتلوا أجزاء كبيرة من الأراضي في فلسطين والأردن ولبنان ومصر وسوريا!.

في تلك الأيام، وبينما كان الكبار يكابدون مرارة الحزن وهول الصدمة أمام السرعة والسهولة التي حسمت بها الحرب، بدأت تتفتح في دواخلنا، نحن الصغار، الأسئلة، وإلحاح البحث عن إجابات لتفسير ما حصل. كان ثمة مروحة واسعة من الاجتهادات وكثير من العوامل والأسباب، تمتد من أحاديث عن تفكك الصف العربي وعن تواطؤ بعض أنظمته، إلى تفوق العدو لسخاء الولايات المتحدة الأميركية مقابل شح ما يعطيه لنا الاتحاد السوفياتي، أو إرجاع أسباب الهزيمة إلى ذواتنا، إلى تخلفنا وجهلنا، إلى القمع والاستبداد الذي يرعى شؤوننا، إلى قيادات فاسدة وغير أمينة، والأهم ما خلص إليه أصحاب الرأي الأخير من أهمية تحرير الإنسان من القهر والتمييز والتسلط كممر لا غنى عنه لمقارعة العدو واسترداد الحقوق.

لم يكن الدرس حول أولوية تحرير الإنسان مقبولاً قبل الهزيمة، وإن صار مسموحاً به ومسموعاً بعدها، لكن ليس لوقت طويل، فقد قطعت هذا المخاض معركة الكرامة الشهيرة عام 1968 وما عرف عن نجاح المقاومين الفلسطينيين والعرب في تكبيد العدو خسائر فادحة، ما أنعش بعض التفاؤل في النفوس اليائسة، فبدأ المزاج الشعبي ينقلب، وأعيدت الروح الى الخطاب الإيديولوجي العتيق، الذي يقوم على أولوية المقاومة والتعبئة الوطنية وتأجيج الحماسة لمواجهة نتائج الهزيمة وآثارها، ما أضعف موضوعياً زخم الدعوات الى إجراء وقفة نقدية مع الذات ومثالبها إن لم نقل أجهضها، ربما لأن الركون إلى السلاح ومنطق العنف والمكاسرة هو السبيل الأقرب الى نوازع الثأر والانتقام التي اعتملت في الصدور بعد الهزيمة، وربما لأنها الطريق الأسهل بالمقارنة مع صعوبة طريق الحريات والبناء الديموقراطي، وربما لأننا اعتدنا أمام أي كارثة تصيبنا أن نجنّب الذات المسؤولية أو نتنصل من الكشف الجريء عن الحقائق عندما تخصنا، مفضّلين الهروب إلى التفسيرات التآمرية أو إلى لغة الهجوم والشعارات الرنانة!.

وقتئذٍ اكتسح ثقافتنا شعار الكفاح المسلح الذي رفعته المقاومة الفلسطينية وغدا ثابتاً من الثوابت غير القابلة للنقاش، ومنح الأنظمة العربية فرصة لم تضيّعها لتتوسل لغة السلاح والقوة وتعيد صياغة شرعيتها تحت شعارات الثأر من العدوان والاستعداد عسكرياً لتحرير ما احتل من الأرض، والأهم للرد على دعاة أولوية التنمية الديموقراطية ومحاصرتهم، وتالياً لوأد ما استخلص من دروس الهزيمة وأسبابها، وتحديداً الدرس الأغنى والأهم المتعلق بالاستبداد المزمن وتغييب حقوق الإنسان العربي وحرياته، وبالفعل كللت هذه الجهود بالنجاح بعد التداعيات السياسية لحرب تشرين عام 1973، ما سهّل تكريس الثقافة القديمة ذاتها المضمّخة بديماغوجية وطنية همّشت حقوق الناس وحرياتهم وأدمنت التحلل من المسؤولية وعدم المساءلة والحساب، بل واعتبرت أي اعتراض أو نقد لمساوئ الحالة القاتمة حتى من موقع الالتزام الوطني، هو موضع شك وتخوين، وأية دعوة الى الاهتمام ببناء مجتمع ديموقراطي صحي هي أشبه بدعوة إلى التخاذل والاستسلام!.

دار الزمن دورته وثمة من لا يزال يفرض على شعوبنا ما سمّي محور المقاومة والممانعة، من جماعات وأنظمة تدّعي الوطنية وتفننت ديماغوجيتها في الجمع بين التعبئة القومجية البعثية للنظام السوري، والتعبئة الدينية المذهبية عند السلطة الإيرانية وميليشياتها، من “حزب الله” إلى “الحشد الشعبي” إلى “جماعة الحوثي”، من دون أن ننسى حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وجميعها توسلت عسكرة الحياة واقتناء وتخزين الأسلحة، التي استعملت في معارك الداخل أكثر مما في الخنادق وساحات القتال، تحدوها الشعارات المضللة المبنية على تغييب العقل وعلى المبالغات الغوغائية المحفوفة بالعنتريات، وبقدرة فريدة على استسهال التضحية بحيوات الناس وقوداً لحروب لم يعد لهم فيها ناقة ولا جمل.

دار الزمن دورته وحاولت الشعوب العربية، ومنها المشرقية، في سوريا، لبنان والعراق اجتراح نضالها من أجل حريتها وحقوقها من رحم ذلك المحور ومنظومته القاهرة، لكن القمع والتنكيل والتشريد والتهجير كانت بالمرصاد لكل من جاهد لإعادة الكرة الى ملعب أولوية التغيير الديموقراطي وبناء مجتمع صحي، يحدو ذلك إعادة تشغيل الأسطوانة المشروخة إياها، والادعاء بأن ما يجري هو جزء من مخطط امبريالي للنيل من المواقف الوطنية، ربطاً بتوسل تفعيل المعركة الإعلامية ضد إسرائيل وتسخين المواجهة معها لإجهاض أية فرصة لتبديل الواقع القائم، ولا تغيب من الذاكرة ما لعبته في هذا السياق حرب تموز عام 2006!.

وإذ يستثمر أصحاب هذا المحور حق الشعبين اللبناني والسوري المشروع في استرداد حقوقهما وأراضيهما المحتلة والمظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون، ربطاً بعجز المجتمع الدولي وتعنت دولة اسرائيل، لكن الهدف المضمر لهم هو الهروب من معالجة جدية لأزمات المجتمع ومشكلاته، والالتفاف على الأسباب الحقيقية لتدهور الأوضاع في البلدين، وتالياً للطعن بمطالب الناس المشروعة في الحرية والمساواة، وفي تأمين لقمة عيشها بكرامة، ما يعني أن الغرض الكامن اليوم من وراء تسخين ديماغوجيا الشعارات الوطنية والتحريرية ضد إسرائيل وتعدياتها، هو تمكين السيطرة واستسهال إلصاق تهم الخيانة والعمالة بحق دعاة التغيير ومناهضي القهر والتمييز والفساد في محاولة مكشوفة لتسويغ منطق القوة والغلبة وتأبيد أشكال الوصاية والتلاعب بمصير الأوطان.

لكن إلى متى؟ هل هو قدرنا العيش في دوامة هذا المناخ من التعبئة المضللة ومن الخوف والمعاناة والآلام؟ أليس ثمة علاج لهذا الإدمان على الرضوخ لتلك العقلية الوطنية المريضة وتسويغ عنفها وقهرها؟! وألم تقل أحوالنا البائسة والنتائج المثيرة للشفقة لهزائمنا المتعددة كما للانتصارات الإلهية الخلبية، كلمتها بحق هذه العقلية؟ وألم يؤكد الحصاد المر للشعارات الوطنية الطنانة بأنها لم تكن أكثر من رايات مضللة استخدمتها الأنظمة والجماعات “الوطنية جداً” لتعزيز أسباب سلطانها وقهر ناسها وحماية امتيازاتها، وتبرير فشلها وإخفاقها في حماية حقوق المجتمع وإنجاز مهامه التنموية؟!

شارك المقال