“حزب إيران” يتبنّى خطّ التنازل أمام أميركا واسرائيل

عبدالوهاب بدرخان

انطوت صفحة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بعدما أظهرت الحقيقة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ما يعرفه اللبنانيون هو أكثر مما توصّلت إليه المحكمة من خلال الأدلة التي توفّرت لها، على الرغم من أن قتلة النظامين الإيراني والسوري والمتواطئين معهم بذلوا كل ما كان لديهم من تسلّط لطمس المعالم وتصفية الشهود وتهديد المحققين لإخفاء كل ما يساعد على كشف الجريمة. مع ذلك، استطاعت المحكمة أن توجّه الاتهام وتحدّد العقوبة لثلاثة مجرمين ينتمون الى “حزب إيران/ حزب الله”، وبديهي أنهم لم يتحركوا بدوافع شخصية، بل بأوامر حزبية، ولم يكونوا وحدهم، لكن العديد من القادة الضالعين، من مجرمي نظام بشار الأسد و”حزب إيران” جرت تصفيتهم تحوّطاً لأي ظروف مفاجئة قد توقعهم في أيدي أجهزة ترغب في استخدام الجريمة ضد دمشق وطهران.

الأسماء الثلاثة، سليم عيّاش وحسن مرعي وحسين عنيسي، ستبقى في عهدة القضاء اللبناني عندما ينهض من كبوته، وبرسم عدالةٍ ما لا بد أن تنبثق من شريعة الغاب التي فرضها “حزب إيران” على لبنان واللبنانيين. ينبغي التكرار والتذكير بأن الأمر لا يتعلّق بزعيم فرد، أو بطائفة معيّنة، وانما برمز وطني. ولم يعد خافياً أن اغتياله كان محطة انطلاق “الحزب” الى وضع البلد تحت الاحتلال الإيراني. كل ما حصل ويحصل منذ الاغتيال، مروراً بوضع اليد على الدولة واستباحة بيروت، وترهيب بعض مكوّنات المجتمع لتصبح متواطئة مع الجريمة، وصولاً الى جريمة تفجير مرفأ بيروت، واستطراداً الى العبث بالبعد العربي للبنان وإفساده، بُني ولا يزال يُبنى على الاغتيال وما بعده.

ما فعلته المحكمة الدولية أنها حفرت كلمة في الوجدان اللبناني: “حزب إيران/ حزب الله” هو مَن قتل رفيق الحريري، وتركت كلمة للتاريخ: هذا “الحزب” هو مجرد عصابة قتلة ومجرمين لا يمكن لدولة أو قضاء أن يكونا بمأمن طالما أنه متسلّط عليهما، ولا يمكن لهذا التسلّط أن يسود أو يدوم مهما خدمته تقلّبات السياسة الإقليمية والدولية. يظن هذا “الحزب” أنه في صدد صنع التاريخ أو تغييره، لكنه بحكم طبيعته وتكوينه مجرّدٌ من أي حسّ تاريخي. يشهد على ذلك إجرامه في لبنان، وإرساله مجرميه للمشاركة في قتل السوريين والعراقيين واليمنيين. أنه يصنع “مستقبله” على حساب الشعوب التي يعيش في كنفها، كأنه من نسيجها، لكنه أصبح مكشوفاً أمامها كـ “طابورٍ خامسٍ” يعمل على اخضاعها لطرف خارجي. ومهما طال الزمن ستبقى جرائمه تطارده.

تزامنت نهاية عمل المحكمة الدولية مع انكشاف أوهام جديدة بنى “الحزب” أمجاد قوّته عليها. انه يختبئ وراء طائفة ضاقت بسجله الأسود وتعبت من مغامراته الداخلية والخارجية. وعلى الرغم من أنه ملأ الفضاء كلاماً عن سلاحه غير الشرعي كـ “عامل ردع” للعدو الإسرائيلي، إذا به يستخدم قوّته للضغط على أطراف السلطة كي تتنازل في مطالبتها بـ “حقوق لبنان” في ثرواته المائية وما تتطلّبه من ترسيم للحدود البحرية مع إسرائيل. فجأة صار زعيم “الحزب”، حسن نصرالله، سائراً “وراء الدولة” في مفاوضات الترسيم ومشاركاً في الكواليس في مديح الخطّ 23 الذي غدا عنواناً للتنازلات اللبنانية، ولم يكن نصرالله قد أبدى أي تأييد علني أو سرّي للخطّ 29 الذي يشتمل على المصالح الاقتصادية الخالصة للبنان. فرض العدو الإسرائيلي والوسيط الأميركي الأمر الواقع لحشر لبنان في الزاوية، وكان آموس هوكشتاين بالغ الوضوح بقوله “إن ما تعتبره حقّاً ليس مهماً، بل المهم هو الخيار الذي يمكن أن يعمل ويكون مجدياً”.

الأكيد أن الجانب اللبناني سيذهب الى التفاوض وقد فَقَد كامل رصيد الثقة الداخلية الذي يُفترض أن يتوافر له، فلا شيء يبرر الإرباك والتخبّط طالما أن الوثائق والمصالح واضحة. ستبقى النقاط العالقة: لماذا هناك خطّان، وأيهما الأكثر صوناً للحقوق، ولماذا يجب التنازل الآن، وإلى أي حدّ كانت المساومة على رفع العقوبات عن جبران باسيل من أسباب التلاعب بالخطوط أو من أسباب إخفاق المفاوضات، وما الدور الذي يمارسه “الحزب” لتمكين إيران من التلاعب بالترسيم لأهدافها ومصالحها ومساوماتها مع اميركا واسرائيل؟ في أي حال، ووسط الارباك الذي أحدثته سفينة “اينرجين باور”، تمكّن “الحزب” من تمرير خدعة أن تهديده للسفينة أحدث فارقاً في معطيات الأزمة، وأن تدخل نصرالله هو ما انتج “موقفاً موحّداً” للتنازل.

لكن الحقيقة أن أسلحته وصواريخه ما كانت لتنفع إلا في اشعال نزاع عسكري يزيد من هول الأزمة الشاملة التي يعيشها لبنان. ثم أن هناك الأهم، وهو أن الضعف الذي بدا عليه لبنان في مواجهته للأمر الواقع كان “الحزب” من أكبر أسبابه، إذ أنه تعامل باستهتار وتجاهل مع الانهيارات المستمرّة وحال العزلة الدولية للبنان، واعتقد أن صواريخه الدقيقة هي العنصر المهم في صنع المعادلات. لعل نصرالله تيقن الآن بأن “حزبه” ماضٍ في إضعاف لبنان بتجريده من صداقات دولية يمكن أن تساعده على تحصيل حقوقه.

شارك المقال