“أولئك ابي” عن السعودي عبدالله الدريس

محمد علي فرحات

“اولئك ابي” كتاب زياد بن عبدالله الدريس الصادر عن دار “العبيكان” السعودية هو كتاب الابن عن الأب، وهو يذكرنا بكتاب حسين أحمد أمين عن أبيه الكاتب المصري الكبير أحمد أمين وقد أعطاه العنوان “في بيت أحمد أمين” متناولاً الأب وابناءه ومحيطه الأدبي. وفي هذا المجال، نذكر محاضرة القاها أحمد امين في بيروت استخدم فيها التأنيث في ذكر لبنان، وقد دافع عن ذلك بالقول: “خير لنا أن نؤنث لبنان باعتباره أمة على أن نذكرّه بوصفه وطناً”.

يقول الدريس عن ابيه انه حفظ القرآن الكريم في طفولته، ثم أمّ المصلين في المسجد عند شبابه. لكن هذا الرجل المستمر على درجة متوازنة من التديّن طوال حياته، كان يكتب أيضاً الشعر التأمّلي والوجداني وشعر الغزل تحديداً، كما كان يقرأ المجلات الأدبية الصادرة من الداخل السعودي ومن العالم العربي ومن المهجر، ويأتي بها الى بيته لتكون بمثابة اللقاح لأبنائه.

ويضيف ادريس عن ابيه: “حين زارني في باريس، كان حرصه على رؤية برج ايفل لا يقل عن حرصه على زيارة جامع باريس الكبير، واهتمامه بمعرفة أحوال الجالية المسلمة هناك لا يقل عن اهتمامه بمعرفة المقاهي العتيقة التي كان يجلس على مقاعدها أدباء فرنسا”. ويعلق ادريس قائلاً: “هذه المعادلة المتوازنة بين الدين والدنيا ليست حكراً على أبي، لكنها ليست معادلة هينة، ولذا فالقادرون على تطبيقها قلة كان أبي واحداً منهم”.

والعنوان “اولئك ابي” دليل على تعددية اهتمامات الأب الأديب والمفكر والشاعر السعودي، وهو ايضاً اشارة الى الأدباء السعوديين الذين تكرّس ذكرهم وتعزّزت مكانتهم العربية في العقود الأخيرة. لم يكونوا داخل ستائر النسيان. كل ما في الأمر انهم اهتموا بزملائهم من مصر وبلاد الشام أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، وها هم هذه الأيام يعلو ذكرهم في السعودية كما في العالم العربي كله، في نوع من المساواة في التفاعل بين الأدباء والمفكرين العرب.

وحين كانت كتابات الأدباء السعوديين معتّماً عليها، رأى بعض الأجانب ان ما يكتب في الصحافة السعودية هو تعبير عن رأي الحكومة أكثر مما هو تعبير عن آراء كاتبيه. وقال زياد الدريس لوزير الاعلام في عهد الملك فيصل جميل الحجيلان: “لماذا لا تفهمون السفارات الأجنبية عندما تحتج على رأي نقوله في صحافتنا انه نبض الشعب وليس الحكومة؟”. وكان جواب الحجيلان: “الاجانب يعتقدون أن الشعب السعودي لم يصل الى تكوين رأي عام، ومن هنا يحمّلون الحكومة مسؤولية النقد الواعي الذي يوجه الى دولهم”. قال الدريس: “ان مما يشرف حكومتنا، وهو كذلك ما يشرف كل حكومة في العالم، أن تباهي بوعي شعبها ونضوجه الفكري والسياسي، بل ان الحكومة تشرّف إذا كانت تحكم شعباً واعياً، لا أن تحكم شعباً جاهلاً أو خاملاً”. فعلق الوزير الحجيلان قائلاً: “أوافقك على هذا التحليل والتعليل. لكن واقعنا هو هذا، ونحن كما ترون دوماً الى الأفضل والأحسن ان شاء الله”.

ويمكن النظر الى عبدالله الدريس كنموذج لأدباء سعوديين كثر اصدروا مؤلفات قيمة، توضع على قدم المساواة مع مؤلفات أقرانهم العرب. وهو الذي صدرت سيرته الذاتية “قافية الحياة” عام ٢٠١٣، ولد شمال مدينة الرياض وتوفي فيها عام ٢٠١٢. وقد حصل على بكالوريوس كلية الشريعة وتولى رئاسة تحرير صحيفة “الدعوة” الاسلامية وأصبح مديراً عاماً لمؤسسة “الدعوة الاسلامية الصحافية”. وكان عيّن رئيساً للنادي الأدبي في الرياض، ومُنح وسام الريادة عن كتابه “شعراء نجد المعاصرون” كما فاز بجوائز في مصر وبريطانيا. وأصدر دواوين عدة ودراسات أدبية وكان ديوانه الاول يحمل عنوان “في زورقي”، وكُتبت عن الدريس مؤلفات ورسائل جامعية في المملكة العربية السعودية وخارجها.

وقد اتاحت مراجعات المؤلف المتكررة لمسودة الأعمال الشعرية الكاملة لأبيه عبدالله الدريس رؤية الصورة السيكولوجية لشخصية الشاعر، فكأننا أمام سيرة ذاتية شعرية سمتها الأبرز هي النزعة الدينية التي تراوح بين سلفية ساكنة وما يشبه الشعر الصوفي في تجلّياته التأمّلية. وإذا بنا أمام رجل دين ودنيا في آن واحد، وفي الكلام على الدنيا يلاحظ المؤلف وفرةً في قصائد تعبر عن الماء نهراً أو بحراً بما يتجاوز الطبيعة المحلية نحو مجمل المظاهر الطبيعية داخل المكان السعودي وخارجه.

ويخاطب الكاتب أخيراً أباه الراحل بالقول: “يا أبي، بمنتهى الحياد والشجاعة أقول لك: اطمئن فقد تركت بصمة في هذه الحياة. ليس هذا رأيي فقط بل رأي كبار الثقافة العربية كالعقاد وطه حسين والزيات وبنت الشاطئ ونازك الملائكة وحمد الجاسر، وغيرهم ممن اثنوا على كتابك الرائد “شعراء نجد المعاصرون” الذي صدر عام ١٩٦٠ كأول كتاب نقدي مطبوع في نجد وأنت حينها في عمر ٣٣ عاماً فقط. فكيف بهم لو رأوا ما صنعته بعد ذلك من شعر ونثر ونقد طوال تسعة عقود من العطاء؟”.

شارك المقال