هل هو الانفراج أم هدوء ما قبل العاصفة؟

ياسين شبلي
ياسين شبلي

أتى إطلاق “حزب الله” لثلاث مسيرات “غير مسلحة” بإتجاه حقل كاريش “المتنازع” عليه مع إسرائيل، بعد فترة وجيزة كان قد بدا معها أن بعض الرؤوس الحامية بردت وأن الأمور في طريقها إلى الحلحلة في المنطقة، حيث بدأ حراك جديد بعد تشنج وتشدد في التصريحات والتهديدات المتبادلة بين إيران و”حزب الله” و”حماس” من جهة، وبين إسرائيل من جهة أخرى في الأسابيع الماضية. مع “حماس” على خلفية التطورات الأخيرة في الأراضي المحتلة من إقتحامات متتالية للمسجد الأقصى وسياسة إغتيال الناشطين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومع “حزب الله” على خلفية أزمة باخرة إستخراج الغاز من حقل كاريش وتداعياتها على ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. أما مع إيران وهي الأساس فقد كانت نتيجة الضربات المتتالية التي تلقتها عبر إغتيال العديد من ضباط الحرس الثوري الايراني مؤخراً، ومقتل آخرين منهم في ظروف غامضة، والضجة التي أعقبتها وأحدثتها إسرائيل عن محاولات للرد تقوم بها إيران ضد رعاياها في تركيا في محاولة إستباقية ربما لتعطيل أي رد إيراني، أو ربما من ضمن الحرب النفسية للتسويق الدولي ضد إيران، وقد تكون أيضاً من جملة الرسائل “التمريرية” المتبادلة بين الطرفين لحفظ ماء الوجه بديلاً من المواجهة المباشرة .

هذا الحراك الجديد كان قد إنطلق بداية بإعلان موعد زيارة الرئيس الأميركي الى المنطقة والسعودية خصوصاً بعد فترة من الشد والجذب في العلاقات بين البلدين، هذه الزيارة التي ستتخللها قمة أميركية – خليجية إضافة الى زعماء كل من مصر والأردن والعراق وسط عودة الحديث عن قيام “ناتو” عربي لمواجهة التهديدات الايرانية في المنطقة بصورة تذكر بإقامة حلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي ضد الخطر الشيوعي يومها، وما جره على المنطقة ولبنان خصوصاً من مشكلات وأحداث. المثير أنه وفي مواجهة هذا الأمر – وبعكس ما هو متوقع – كان قد بدا أن هناك تبريداً إيرانياً وخفضاً لسقف التوتر تمثل في “الغزل” المفاجئ بإتجاه كل من السعودية والإمارات من جانب عدد من المسؤولين الإيرانيين، وسط حديث عن إجتماعات عقدت بين مسؤولين سعوديين ومسؤولين في “حزب الله” مهدت لإتفاق الهدنة في اليمن – على الرغم من نفي بعض الأوساط الاعلامية المقربة من الطرفين هذا الأمر – كما ترافق ذلك مع خطاب “معتدل” للأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله بشأن حقل كاريش عندما إصطف خلف موقف الدولة اللبنانية بما يعنيه هذا من تبريد للأجواء، ما سمح للدولة ممثلة برئيس الجمهورية ميشال عون بالتفاوض مع المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين متحرراً من المزايدات ومتخلياً عن الخط 29 الذي سبق وأعلنه خط تفاوض، ومحدداً موقف الدولة اللبنانية بالمطالبة بالخط 23 إضافة إلى حقل قانا بالكامل، وهو ما سيسمح أقله بعودة المفاوضات من حيث إنتهت خصوصاً بعد بيان وزارة الخارجية الأميركية الأخير الذي ألمح إلى إمكان حدوث هذا الأمر بالحديث عن محادثات مثمرة للمبعوث الأميركي في كل من لبنان وإسرائيل، وهو الأمر الذي عاد وتراجع عنه الحزب كما يبدو من خلال حادثة إطلاق المسيّرات، ما يدعو الى التساؤل عن سبب هذا التراجع وما إذا كانت له علاقة بنتائج محادثات الدوحة غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية التي كان الإعلان عنها بعد زيارة منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى طهران يُعتبر جزءاً من الحراك الجديد وتبريد المواقف في المنطقة.

وفي إطار هذا الحراك أيضاً كانت زيارة لافتة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الى المنطقة شملت تركيا التي كانت العلاقات معها قد شهدت توتراً شديداً على خلفية قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والذي يبدو أنه تم تجاوزها اليوم في تأكيد جديد للمقولة المعروفة بأن لا عداوات ولا صداقات دائمة في السياسة بل مصالح دائمة هي التي تحكم مسار العلاقات بين الدول. كما شملت الزيارة كلاً من مصر والأردن أيضاً بعد مرحلة من الفتور مرت بها العلاقة بين المملكتين وهو ما يؤشر إلى تطورات لاحقة قد تعيد بعض التوازن والحرارة إلى العلاقات العربية – العربية. في هذه الأجواء التي يغيب فيها لبنان عن صورة هذه التحركات وكأنه غير موجود بسبب فقدان دوره الديبلوماسي والسياسي في المنطقة جراء سوء إدارة السلطة التي يسيطر عليها بشكل أو بآخر “حزب الله”، وهو المحسوب على الطرف الآخر بمواجهة المعادلة الأميركية – الخليجية – العربية، وفي وقت بدا وكأنه ينتظر ومعه سوريا وفلسطين ينتظرون بت مصائرهم من دون أن يكون لهم حق في تقرير هذه المصائر بعد أن باتوا ملحقين بالطرف الإيراني وعزلوا أنفسهم عن محيطهم بسبب سياساتهم المنعزلة عن مصلحة شعوبهم سواء في داخل بلدانهم أو في محيطهم العربي الأوسع، وقد باتوا نتيجة هذه العزلة أضعف أقتصادياً وسياسياً وديبلوماسياً من أن يكون لهم أي تأثير على مجرى الأحداث في بلدانهم قبل المنطقة.

في هذه الأجواء جاء إطلاق المسيرات ليطرح السؤال مجدداً عن هدف هذه “الرسالة” كما أطلق عليها “حزب الله” في هذا الوقت بالذات، ولحساب من جاء إطلاقها، لحساب لبنان وهو الذي “تخلى” عملياً عن الخط 29 وبالتالي عن حقل كاريش، أم كالعادة لحساب النظام الإيراني بحسب نظرية ترابط الساحات، وفي هذا الإطار ربما تأتي زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية إلى بيروت وإجتماعه بالسيد حسن نصر الله وهو ما يطرح السؤال عن مغزى هذه الزيارة في هذا الوقت بالذات، التي هي بلا شك لتنسيق المواقف خصوصاً مع السعي الى إعادة العلاقات مع النظام السوري إلى ما كانت عليه قبل الثورة في سوريا، فهل أن مجيئه – أو إستدعاءه لا فرق – هو إشارة إلى أحداث ساخنة قد تطرأ فجأة أم هي لإيصال رسالة له بالتهدئة في الوقت الحاضر الى حين جلاء الموقف وتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود في كل هذه التطورات؟

إن هذه التطورات إضافة إلى حل الكنيست الإسرائيلي تطرح تساؤلات عن حقيقة وجهة الأحداث في المنطقة، هل هي فعلاً تتجه نحو الإنفراج على طريقة إشتدي أزمة تنفرجي، أم هي مجرد تمرير للوقت عبر الحفاظ على الوضع القائم “ستاتيكو” – ولا بأس ببعض الحركات الاستعراضية كحركة المسيرات – في ظل الأزمات التي تضرب العالم في مجال الطاقة والغذاء بسبب الحرب على أوكرانيا، وتداعياتها المحتملة على السلم الدولي، بحيث أن الوضع الدولي لا يحتمل المزيد من الأزمات؟ أسئلة كثيرة بحاجة إلى أجوبة، وفي الإنتظار تدفع الدول الضعيفة وشعوبها، ولبنان من ضمنها ثمن الجمود السياسي في ظل تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فيها، كما ثمن أي حراك عسكري أو تصعيدي ممكن أن يستجد فجأة في ظل كل هذه التعقيدات بحيث أن أي هدوء غير منطقي ولامبرر في هذه المنطقة – كما تعودنا – قد يكون هدوء ما قبل العاصفة التي إن هبت هذه المرة قد تتسبب بـ”تسونامي” على كل المستويات، بحيث لا يسلم منه أحد وقد يكون بداية لمرحلة جديدة في المنطقة كما كانت حرب عاصفة الصحراء ضد العراق عام 1991، وكذلك غزو العراق عام 2003 الذي قلب الأمور في المنطقة رأساً على عقب، وما زلنا نعيش تداعياته وتأثيراته في هذه الأوضاع والأحداث التي نمر بها اليوم على إمتداد المنطقة والإقليم.

شارك المقال