عيد بأية حال عدت!

اكرم البني
اكرم البني

لا يعرف المرء إلى متى سوف تكرر الشعوب المقهورة هذا الشطر من شعر المتنبي، كما لا يعرف إلى أي حد من الوجع والخراب، يمكن أن تصل المجتمعات المضطربة في المشرق العربي، في سوريا ولبنان والعراق، قبل أن تطوى صفحة الاستبداد والفساد والارتهان لإيران، وقبل أن يوضع حد نهائي لعنف طائفي وتعبئة مذهبية نهشا لحمها قطعة قطعة، وهتكا اجتماعها الوطني ومستقبلها.

اللافت في هذا العيد، أن الناس صاروا يتجاوزون عبارات التهنئة، إلى مفردات جديدة مفعمة بالألم والأسئلة، عن فرص استمرار الحياة والقدرة على توفير الحاجات الأساسية، عن خيارات الهروب والهجرة، عن أوضاع الأهل والأحبة، من منهم لا يزال بخير ومن تعرض لأذى أو عوز أو قهر أو اعتقال، عن الثمن والتكلفة التي لا يزال يتطلبها إجتراح المستقبل، وتالياً عن الزمن الذي ما زال يفصل بين إسقاط سلطات قمعية وفاسدة ومرتهنة، وبين التغيير وبناء مجتمع صحي ومعافى.

تتشابه نوعياً معاناة مجتمعات العراق ولبنان وسوريا وهي تستقبل العيد وإن اختلف بالدرجة، فالوضع الاقتصادي وصل إلى الحضيض، مع تهتك المؤسسات الخدمية والصحية وتفككها، والضعف الكبير الذي طال حقل السياحة، وتراجع دور البنوك العامة والخاصة، ومع انهيار مختلف القطاعات الإنتاجية، بحيث أفَضى شح المواد الأولية وضعف التسويق ومنافذ التصدير، إلى انهيار الصناعة، فأغلقت مئات المصانع أبوابها أو قلصت إنتاجها، وسرح الآلاف من عمالها، وبينما لاقى قطاع الزراعة المصير نفسه، فإن الأسوأ انعدام شبه كلي لفرص الاستثمار، فعدا عن هروب الكثير من رؤوس الأموال إلى الخارج بسب الفوضى والاضطراب فقد تعطلت غالبية المشاريع الاستثمارية التي كانت تسير بصورة طبيعية، والأهم تدهور شروط معيشة المواطن، وانهيار القدرة الشرائية، مع خسارة العملة الوطنية نسبة كبيرة جداً من قيمتها، لكن الأهم أن يكتظ العيد في العراق ولبنان وسوريا، مع حفظ الفوارق، بمشاهد تزداد وضوحاً من عنف وقهر وتمييز وتفكيك للاجتماع الوطني، جراء الاندفاع الى تعزيز ارتهان هذه البلدان بالمشروع الايراني التوسعي في المشرق العربي.

ولا غرابة أن تخلص غالبية المنكوبين العراقيين واللبنانيين والسوريين إلى أنه من سوء حظها أن تصطدم معركة تحررها السياسي، وإسقاط مثلث الاستبداد والفساد والطائفية، بمخطط الهيمنة الإيرانية، وأن يغدو مستقبل التغيير وبناء دولة المواطنة في مجتمعاتها رهينة توازنات النفوذ الإقليمية والدولية التي تريد طهران الحفاظ عليها، ما يجعل معركة خلاصها مركبة وصعبة ومكلفة، ويجعل تلقائياً، الاحتجاج على الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة، احتجاجاً، في الوقت ذاته، على هيمنة طهران ومسؤوليتها عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وعلى أساليبها في القهر والتمييز والنهب المنظم لمقدرات هذه البلدان وثرواتها.

في العراق، إذا كان إعدام صدام حسين في صبيحة عيد الأضحى عام 2006 دلالة على عمق الاحتقان المذهبي بين السنة والشيعة، فقد اختلف المشهد اليوم، وصار الوجه الأساس للشحنة الهائلة من تسعير الحقد والكراهية ليس مذهبياً، بل سياسي ضد الراغبين في محاربة الوصاية الإيرانية والتمييز والفساد، ما يعني أن الأسباب التي تدفع أبناء الشعب الواحد الى قتل بعضهم البعض لم تعد تقتصر على الخلاف على الهوية الدينية والطائفية، بل بات دم الصديق والجار مباحاً ومهدوراً لمجرد انتمائه إلى قوى التغيير وإلى من يريد رفع راية العراق الوطنية في مواجهة حماقة الولاء لإيران وعمى الروابط المذهبية، بما في ذلك استخدام الرصاص الحي وأساليب القنص لقتل الناشطين وتغيبهم.

وفي لبنان يبدو أن الأمل الذي أشاعته ثورة 17 تشرين الأول، يسير نحو التبدد بسرعة ربما تضاهي سرعة إعادة إنتاج الاحتقانات وأجواء التحدي الطائفي والمذهبي، وبدل أن تعزز معاناة الشعب اللبناني، الرغبة والإرادة في التغيير أمام تدهور غير مسبوق، انسانياً واقتصادياً وسياسياً، تزداد أواصر التعاضد البغيض مع سلاح “حزب الله” ومنطقه، للحفاظ على الوضع القائم ولإحياء البنى المتخلفة ولغة القوة والغلبة على حساب الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي في ضمان وحدة البلاد وحماية حدودها وتسوية علاقاتها الخارجية، ما ينذر بتنامي الأسباب التي تؤجج الاقتتال الأهلي وتحديداً إذا أصرت أطراف لبنانية على وضع مصلحتها الخاصة ومصلحة حلفائها فوق مصلحة البلاد وأهلها.

بينما يحمل العيد في سوريا صوراً مؤلمة وغزيرة عن شدة ما يكابده الناس، بعد أن أمعن العنف المنفلت ومتعدد الوجوه، النظام وايران وروسيا، تخريباً وتدميراً في حيواتهم وأرزاقهم، معرضاً، حتى الآن، أكثر من نصفهم لأضرار وأذيات تتعدد أشكالها، مئات الآلاف من القتلى ومثلهم من الجرحى والمشوهين، وتفوقهم أعداد المفقودين والمعتقلين ثم أضعاف مضاعفة من الهاربين نزوحاً داخلياً أو لجوءاً إلى بلدان الجوار، هذا عدا عما خلفه استدراج القوى الخارجية وخاصة إيران وميليشياتها والاستفزازات الطائفية من تشوهات وانقسامات في المجتمع، ومن شحن العصبيات وروح التنابذ والنزاع، ما بات يهدد النسيج البشري المتعايش منذ مئات السنين بالانشطار إلى هويات ممزقة وإلى صراعات من طبيعة إقصائية ستترك آثاراً مريعة على وجود ووحدة البلاد والدولة والشعب.

تفاؤلاً، يمكن للبعض تسويغ ما يعانيه الناس ويكابدونه، بأنه مخاض لا بد أن تمر به هذه البلدان للتخلص من عفنها ونتن ركودها المديد وارتباطاتها البغيضة ولبناء الوطنية الحقة، لكن اليوم ونحن نتلمس، بمناسبة العيد، النتائج المؤلمة وما يرجح أن تفضي إليه من ترد وانحطاط، ليس ثمة ما يدعو الى التفاؤل وتبدو الفرص ضائعة ومبددة لبناء نظام سياسي تعددي يعيد للإنسان روحه وللوطن تألقه.

وتفاؤلاً أيضاً، بينما تعاني الغالبية الأمرين، يفترض ألا تخدعك جوقات صغيرة تصطنع الفرح وتبالغ في إظهار سعادتها وبهجتها بالعيد، بعضها ربما لأنه يعيش في أوهام انتصاراته الخلبية، ولا يعنيه ما تحمله الأخبار اليومية عن المعاناة والمآسي، وبعضها ربما لتفريغ انفعالاته الرافضة لما يجري ويعجز عن توجيهها ضد أغلال القهر التي تكبله، وبعضها كي يهرب من الكوابيس المرعبة وما رسخ في ذاكرته من صور مخيفة ومقززة للنفس عما كابده ويكابده أخوة له… فوراء تعظيم هيصة الفرح ثمة ما يشي بالنواح وبأصوات تضمر مواويل حزينة!

شارك المقال