رسائل نصرالله… القرار لإيران في الترسيم كما في الرئاسة

عبدالوهاب بدرخان

يكمن الخطر، كل الخطر، في أن يكون “حزب إيران/ حزب الله” بحاجة الى الحرب التي يلوّح بها زعيمه. فعدا مداخلاته المتلفزة، هناك الكثير من الكلام الذي يُنقل عنه ويصبّ كلّه في أنه “يتوقّع حرباً”. وفي الأسابيع الأخيرة، أصبح حسن نصرالله أبرز المفاوضين اللبنانيين في ملف ترسيم الحدود البحرية، وكبير الاستراتيجيين والتكتيكيين الإيرانيين، وصاحب قرار الحرب التي “لن تقتصر” على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية. يدعمه في ذلك أن اللعبة صارت مقفلة: فإسرائيل استقدمت الباخرة اليونانية وبرمجت بدء استخراج الغاز في موعدٍ ما خلال أيلول، والولايات المتحدة تدعم هذا الاستحقاق في اطار اشرافها على خريطة انتاج الطاقة في المتوسّط. إذاً، هذه هي اللحظة المناسبة والحاسمة كي يحصل لبنان على حقوقه، طبعاً عبر المفاوضات ولديه فيها أوراق يتيحها القانون الدولي، لكن إدارة المفاوضات عجزت ولا تزال عاجزة عن تفعيلها، فسمحت لـ”حزب إيران” بالدخول على الخطّ بمسيّراته وشروطه وإيحائه بأن الملف كان دائماً في يده سواء عندما تولّاه رئيس مجلس النواب أو بعدما نُقل الى رئيس الجمهورية.

أكثر من عشرة أعوام ضاعت في مكّوكيات المبعوثين الاميركيين، ولم يكن فيها سوى نذر قليل من التفاوض غير المباشر. أمضاها لبنان في درسٍ وتعديلٍ ورفضٍ لما/ وجدلٍ على ما يُعرض عليه من خرائط أو هذا على الأقلّ ما كان يُقال للبنانيين بصيغ غامضة من دون أن يُحرز أي تقدّم في عمليات التنقيب التي جرى تلزيمها قبل انفجار الوضع الاقتصادي والمالي. أما إسرائيل فأمضت معظم تلك الأعوام في إنهاء التنقيب واقامة البنية التحتية لحقولها المختلفة وابرام الاتفاقات المطلوبة مع الدول والشركات تحضيراً لاستغلال الثروة المائية وبمشاركة الأميركيين في انشاء “منتدى المتوسط للغاز”. كان لبنان غارقاً في خلافاتٍ داخلية حول “التقاسم الطائفي” للبلوكات، وعندما دهمته الأزمة لم يعرف كيف يعالجها ولم يكن مهيّئاً للفصل بينها وبين ملف الغاز والنفط باعتباره ثروةً لا بدّ أن تؤخذ في الحسبان عندما يحين وقت تلقّيه المساعدة من صندوق النقد الدولي وغيره.

ماذا كان دور إيران و”حزبها” خلال الأعوام الضائعة؟ وماذا فعلت خلال مواكبتها لمهمات المبعوثين الاميركيين ثم لمفاوضات الناقورة؟ ولماذا اختارت الآن أن تتدخّل علناً؟ وما هي نظرتها وأهدافها في أن تتوفّر للبنان ثروة غازية ونفطية ولو بعد سنوات؟ وأسئلة كثيرة غيرها تُطرح. ذاك أن اللبنانيين لم يُصارَحوا في شأن هذا الملف، على الرغم من أنه لم يكن هناك سببٌ للتكتم والسرّية، والأكيد أنهم الآن لا يثقون بأحد طالما أن المنظومة السياسية (ومنها “حزب إيران”) هي التي توجّه المفاوضات وتعطي التعليمات وما على المفاوضين العسكريين سوى التزامها. وفي خلفية العملية التفاوضية، يجلس الإيرانيون الطامحون لأن تكون لهم كلمة، مسلّحين بكونهم يملكون في لبنان موقعاً مطلّاً على المتوسّط.

حاولوا الحصول على هذه الميزة في سوريا، وعلى الرغم من أن الروس منعوا بشار الاسد، حتى الآن، من الترخيص للإيرانيين لإقامة أي قاعدة على الساحل، إلا أنه فتح لهم بعض المصالح التجارية في ميناء اللاذقية وقد قصفها الإسرائيليون استباقاً لعسكرتها. أما لبنان فتعامله إيران كبلد استباحته واحتلّته ولا يحتاج أتباعها فيه الى ترخيص أو استئذان لأي عمل حتى لو أدّى الى تفجير مرفأ بيروت، بل يعلن زعيمهم نصرالله أنه جاهز للحرب مفاخراً مسبقاً بالدمار الذي سيحدثه في اسرائيل وغيرَ مبالٍ بالدمار الذي يمكن أن يلحقه بالبلد. ولا عجب فإن نظرته لا تختلف عن نظرة الإيرانيين الى لبنان، مجرّد أرض قتال بعيدة، والمهم فيها أن لا تمسّ أرض إيران.

كل ما تستطيعه الدولة أو ما بقي منها هو تمرير “موقف” لفظي، كما حصل في استنكار الغزو الروسي لأوكرانيا، أو في “النأي بالنفس” عن مسيّرات ” حزب إيران”، أو في تكرار الحرص على أفضل العلاقات مع الدول العربية. المشكلة أن أحداً في الخارج، وهو المُخَاطَب، لا يأخذها على محمل الجد، لأن الأفعال تكذّب الأقوال، عدا أنها تتعرّض لـ “التوبيخ” بسبب تلك الأقوال. وعلى الرغم من أن “أركان الدولة” هم من يلتقون المبعوث آموس هوكشتاين للبحث في مستجدات ترسيم الحدود، إلا أن واشنطن وباريس وإسرائيل تولي اهتماماً أكبر بما يصدر عن نصرالله، وإذ كرّر أنه يقف وراء “الدولة” في هذا الملف فإنه لم يحدّد أي “دولة” أو أيهما تريد الحرب وتبحث عن “انتصار”، لبنان أم إيران؟

بما أن أيلول اعتُبر بداية العدّ العكسي لنهاية العهد الأسود ولحسم الاستحقاق الرئاسي، فقد ارتأى نصرالله تكريسه مسبقاً شهر مخاطر، فوق كل الأزمات التي يعانيها اللبنانيون، بغية التحكّم بالملفّين وتحقيق “انتصارَين”، في الرئاسة والترسيم.

تهدف إسرائيل الى البدء باستخراج الغاز، وهو “انتصار” بالنسبة إليها حتى لو لم تصوّره كذلك، إذ أنه ينهي عملياً أي وضعية صراع أو تنازع على حدودها الشمالية، لذا فهي تريد اقفال أي اشكال عالق مع لبنان.

لكن إيران لا ترى الأمر بهذه الصورة، إذ أن تمرير اتفاق ترسيم مع اسرائيل بوساطة أميركية يعني تقصيراً في “استراتيجيات التعطيل” التي تطبّقها في كل مراكز نفوذها، من سوريا الى العراق واليمن وغزّة، وصولاً الى لبنان، لذا يهمّها أن يدرك الاميركيون قبل الإسرائيليين أنهم لن يستطيعوا الاتفاق مع أي “دولة” تحتلّها إلا في حال المساومة معها على أساس أنها تملك جزءاً من القرار أو كل القرار كما في لبنان.

مجرّد أن تكون إيران في وضع يمكّنها من التهديد بحرب، عبر وكيلها نصرالله، يعني أن الترسيم ينبغي أن يمرّ بشروطها أو لا يمرّ. ومجرّد أن ليس لديها (لدى نصرالله) مرشحٌ بمواصفات ميشال عون لتستطيع فرضه على الرئاسة اللبنانية فإن بديلها دائم الجهوزية في استثمار الانهيار المستمر والفراغ المحتمل وتراث الاغتيالات والفتنة الدائمة وإنهاء نفوذ المارونية السياسية بعد إنهاء نفوذ السنّية السياسية، تنضيجاً للفرصة السانحة لتغيير النظام اللبناني.

شارك المقال