ماذا سيورث عون خليفته؟

صلاح تقي الدين

بعدما تيقن اللبنانيون أن لا علاج شافياً للمرض الذي أصاب بلدهم نتيجة العهد القوي والصهر الميمون، بدأت أنظارهم جميعاً تتجه صوب الرئيس العتيد الذي يأملون أن يصار إلى انتخابه ضمن المهلة الدستورية ليحاول وضع حد للانهيار الذي أصاب البلد والبدء بسلوك طريق التعافي المنتظر، غير أن لسان حالهم يسأل: ماذا سيرث هذ الرئيس وما الذي سيتركه ميشال عون له؟

في هذا الوقت بدأت بورصة الأسماء الرئاسية تتوالى من كل حدب وصوب، لكن لعل أبلغ مقاربة هي تلك التي أطلقها رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط عندما مرّر في مقابلة تلفزيونية حديثة ما يمكن تسميته “مواصفات” الرئيس العتيد، قائلاً: “يلزمنا الياس سركيس”، في إِشارة إلى الرئيس الراحل الذي انتخب في خضم الحرب الأهلية المشؤومة في سبعينيات القرن الماضي.

فقبيل نهاية عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية واندلاع الحرب الأهلية، توافق نواب الأمة على إجراء تعديل دستوري يسمح بانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل موعد الاستحقاق الرئاسي، فكان أن انتخب سركيس نتيجة تسوية داخلية وخارجية شاركت فيها الدولة “الشقيقة” سوريا إلى جانب التوافق الدولي الأميركي – الأوروبي معطوفاً على موافقة خليجية، بغية إيجاد فسحة أمل تجعل اللبنانيين يتطلعون إلى العهد الجديد لكي يضع حداً للحرب التي أشتعلت أوزارها وشملت كل أراضي الجمهورية وبين كل الطوائف والمذاهب.

لكن في تلك المرحلة، كانت الدولة لا تزال قائمة بمؤسساتها والاستثناء الوحيد كان انقسام الجيش اللبناني، والكهرباء تنير بيوت اللبنانيين، والمياه متوافرة والاتصالات لم تنقطع على الرغم من صعوبتها، والدورة الاقتصادية تسير ولو ببطء، والمجلس النيابي مدّد لنفسه مراراً وتكراراً لكي تظل الحياة التشريعية عاملة ولو بحدها الأدنى، والعالم العربي الذي هو أمس واليوم وغداً العمق الطبيعي للبنان كان لا يزال يحتضننا ويحاول معالجة الأمور ومدّنا بجرعات الأمل والاستمرار، لكن والأهم من ذلك كله، لم تنقطع المواد الحياتية من طحين ومحروقات وأدوية ولم يشعر المواطن بصعوبة الحياة ووطأتها على الرغم من القصف المتبادل والرصاص المتطاير من هنا وهناك، بل كل ما كان عليه أن يفعله هو إيجاد المكان المناسب للاحتماء من الشظايا التي حصدت في كثير من الأحيان حياة الأبرياء.

فاستلم الحاكم السابق للمصرف المركزي مهام الرئاسة وكان جلّ همّه إدارة شؤون البلاد والعباد والامساك بالعصا السياسية من منتصفها تمريراً للوقت ومعالجة الأزمة التي كان منطلقها سياسياً قبل أن تنفلت الأمور ويشهد عهده اجتياحاً إسرائيلياً أولاً في العام 1978، ثم اجتياحاً أوسع في العام 1982 كانت تداعياته كبيرة ولا يزال بعضها يتردد لغاية اليوم، ومع ذلك ظلّت الحياة “المؤسساتية” تسير بصورة شبه طبيعية.

لم يكن المواطن العادي حينها يعاني للحصول على إخراج قيد أو تقديم طلب الحصول على جواز سفر أو حتى شراء طابع أميري عليه أن يلصقه على أوراق معاملة رسمية، فكل ذلك كان متوافراً، كما لم يكن عليه أن ينتظر صدور “قرار” من رابطة موظفي الادارة العامة لمعرفة ما إذا كان الدوام الرسمي غداً متيسراً أم لا، ولم يكن يسمع تحذيراً من وزير التربية عن صعوبة البدء بالعام الدراسي الجديد.

أما اليوم، فكيف يمكن وصف حالة اللبناني وما الذي سيرثه الرئيس العتيد من العهد القوي وميشال عون؟ وهل نحن حقيقة نفتش عن الياس سركيس ما يعني أن الأزمة ستكون طويلة وعليه أن يديرها لا غير؟ 

الدولة تنهار يومياً بكل ما في الكلمة من معنى ومؤسساتها تعاني الويل وينعكس ذلك حكماً على المواطن، الذي يعيش يوماً هاجس تأمين رغيف الخبز، ويوماً ثانياً يفتش عن ساعة من الضوء تؤمنها كهرباء لبنان التي لا تزال تتقاضى فواتيرها من هذا المواطن من دون أن تؤمن له ما يدفع ثمنه ولا تسامحه إن تأخر عن السداد، ويبحث عمن يستطيع أن يؤمن له نقلة ماء أو عن صيدلية لديها علبة دواء هو بأمس الحاجة إليها أو يقف أمام باب المستشفى التي ترفض استقباله أو استقبال أحد ذويه لأن لا مؤسسات ضامنة أكانت رسمية أم خاصة تفي هذه المستشفيات حقها، ناهيك عن الهلع الذي ينتابه في كل مرة قاد سيارته على الطرقات خوفاً من عملية تشليح وسرقة منا هنا أو خطف مقابل فدية من هناك.

ما الذي سيتركه هذا العهد القوي للمدعو الياس سركيس الجديد الذي نفتش عنه؟ العلاقات غير الطبيعية مع دول الخليج بسبب المواقف العنترية غير المسؤولة لوزير خارجية باع نفسه لمحور غير طبيعي، حتى هيكل الدولة العظمي لم يعد موجوداً، فموظفو القطاع العام مضربون بسبب عدم قدرتهم على تأمين الدوام لأن كلفة “تنكة” البنزين تفوق الحد الأدنى للأجور، والقرطاسية أصبحت غير متوافرة في هذه الإدارات فلم يعد بالامكان الاستحصال على إخراج قيد لأن لا أوراق لدى دوائر النفوس لطبع المعلومات عليها، ولا بالامكان الحصول على جواز سفر لكي يترك هذا البلد ومآسيه التي تسبب بها العهد القوي، والفساد الذي لطالما كان سمة من سمات الكيان اللبناني منذ استقلاله أًصبح مستشرياً بصورة فاقت كل حد وتصوّر لأن المسؤولين من “فوق” ونزولاً لم يعد لديهم أي خوف من مساءلة أو محاسبة لأن “حاميها حراميها”.

ماذ سيفعل الياس سركيس اليوم؟ السابق الراحل جاء من حاكمية مصرف لبنان في حين أن الحاكم اليوم يشكّل هاجساً أمام هذا العهد ومسؤوليه ويحاولون الاطاحة به لتحميله وزر كل المصائب التي أنتجوها وليتهم يكفون عن إدعاء العفة، ولا يبالون إلا بتأمين استمراريتهم لأنهم أوهموا اللبنانيين بقدرتهم على الاصلاح والتغيير وهم من هذا الشعار أبرياء.

مسكين الرئيس العتيد والمساكين أكثر هم اللبنانيون الذين يعتقدون أنه بمجرد انتهاء عهد ميشال عون ستعود الأمور إلى طبيعتها بكبسة زر، في حين أن مغزى كلام جنبلاط يشي بأن الأزمة ستكون طويلة وعلينا إيجاد من يستطيع إدارتها إلى أن يأتي الله أمراً كان مفعولاً.

لكن وعملاً بمقولة “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”، علينا أن نبقي على حد أدنى من التفاؤل بإمكان قيامة لبنان من جهنم التي قادنا إليها العهد القوي، ولو استهلكنا ذلك بعض الوقت، لكن أي عهد وأي رئيس سيكون بالتأكيد ومن دون أدنى شك، أفضل من العهد الحالي وسيكون عليه أن يجتهد كثيراً لإعادة وصل ما قطعه الرئيس وصهره وأزلامهما.

شارك المقال