“حزب إيران” لإبقاء اللعنة “العونية” حاكمة في بعبدا

عبدالوهاب بدرخان

في 1988 تعذّر – لمرّةٍ أولى ستصبح تقليداً – انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فسلّم الرئيس أمين الجميّل المنتهية ولايته الرئاسة الى المجلس العسكري الذي كان يرأسه قائد الجيش ميشال عون. بعد اتفاق الطائف (1989)، اغتال النظام السوري الرئيس المنتخب رينيه معوّض واختار الرئيس الراحل الياس الهراوي ثم فرض التمديد له لثلاثة أعوام، كما اختار خلفه اميل لحود ومدّد له أيضاً حتى 2007 وتخللت ولايته حرب 2006 وما عقبها من تداعيات استباحت بيروت وأبرزت المعالم الأولى للاحتلال الإيراني عبر “حزبه”، فتأخر انتخاب الرئيس ميشال سليمان حتى 2008 كنتيجة لاتفاق الدوحة الذي شكّل أول تعديل لـ “الطائف”، وفي 2014 لم يكن للرئيس سليمان أن يسلّم الرئاسة الى أي جهة أو مؤسسة، لأن الدستور ينقل صلاحياتها تلقائياً الى مجلس الوزراء مجتمعاً. في 2022، ولأن عون هو الرئيس، ويريد توريث صهره ورئيس حزبه جبران باسيل، فإن الإجراءين السابقين غير واردين. فلا تسليم الى قائد الجيش، ليس لأنه غير دستوري وحسب، بل لأن عون وصهره و”حزب إيران/ حزب الله” وضعوا “فيتو” على خيار جوزف عون كمرشّح، وهو لا يتصرّف كمرشّح. ومن جهة أخرى، ابتدع مستشارو عون فكرة عدم جواز تسليم صلاحيات الرئاسة الى حكومة مستقيلة تتولّى تصريف الأعمال. وهي “الصلاحيات” نفسها التي شكا عون طيلة ولايته من أنه لا يملكها، لكن الوقائع بيّنت أنها موجودة عندما يريد صهره العبث بتشكيل الحكومة، أو بتعطيل بعض القوانين والقرارات.

تلك ذرائع وحيَل تُستخدم لشرعنة ما هو غير شرعي ولتبرير عدم مغادرة عون قصر بعبدا مع انتهاء ولايته، تكراراً لسيناريو 1989 بعد انتخاب الرئيس الراحل معوّض وقبل اغتياله، ثم بعد انتخاب خلفه الراحل الهراوي. فالقصر لعون أو يخرب الكون، وليس لأحد آخر غير جبران. هذا “التشبيح العوني” يناسب “حزب إيران” الذي يصنع الفوضى ويتبرّأ منها لكنه يقولبها لمشروعه ومصلحته، ويناسبه لجعل الرئاسة “مسخرة” مثلما حوّل الحكومات دمى يتلاعب بخيوطها. وليس في الشغور الرئاسي ما يزعجه، بل يمنحه كل الفرص لتحريك البيادق ومضاعفة تحكّمه بالحكم والسلطة، فمرشحه الرئاسي سليمان فرنجية جاهز وحاضر ومُستضعف ولا يدّعي أنه الأقوى مسيحياً، وإذا كان يكنّ احتقاراً خالصاً لباسيل فإن الضرورة والفرصة الذهبية قد تقنعانه بالرضوخ لشروطه، وهي شروط معروفة ومصممة بالتشاور مع “الحزب”، وتقضي بأن يختار عون وباسيل أتباعاً مطواعين للمناصب المفتاحية، من قيادة الجيش الى حاكمية مصرف لبنان الى… الى… لتبقى لعنة “العونية” حاكمة مع عون أو من دونه، وتكون “رئاسة فرنجية” طربوشاً لـ”ولاية عونية” ممدّدة.

ما يجري منذ 2005 حتى الآن يخضع لخطّ واحد في انتاج السلطة وتشكيلها. استطاع “حزب إيران”، أولاً بالتواطؤ مع نظام بشار الأسد ثم بمعزل عنه، أن يغتال أو يقود تجريفاً للزعامات أو يصادرها ويوهمها بأنها حليفة له، كما فعل مع عون الذي بات الآن آخر حالٍ “زعاماتية” مسيحية استقطابية، وقد تعرّضت لاهتراءات عميقة ستظهر آثارها بعد انتهاء رئاسته حتى لو مدّد مكوثه في بعبدا لبعض الوقت. استهلك باسيل كل “رصيد العونية” و”أمجادها” ولن يتمكّن من استعادتها أو إعادة انتاجها حتى لو استحوذ على كل الحصّة المسيحية في وظائف الدولة. ولم يعد أحد في العالم يجهل أنه استولى على وزارة الطاقة ليحرم بلده من الكهرباء وأنه حوّلها الى وكر فساد ويحول حتى الآن دون اصلاحها على الرغم من أنها ركن رئيس في أي خطة للتعافي الاقتصادي. ليس في سجل عون أي عمل تنموي أو اعماري أو اصلاحي، لكنه يعتقد أن من حقّه أن يورّث جبران ليكمل إنجازاته.

أدرك “حزب إيران” ككثيرين غيره خطورة “العونية”، لكنه استطاع وحده أن يستفرد بها ويدرّبها على بعضٍ من أساليب دجله ثم وظّفها في كل ألاعيبه القذرة. لم يكن “الحزب” ليحظى في أي فئة أو تيار آخر بمثل هذه الأداة المتفانية في التماهي مع سياساته الشيطانية. عصف “الحزب” بكل الأحزاب واخترقها وانتزع منها نفوذاً ورعاعاً يحاول تصنيعهم كـ “زعامات” يحرص على أن تبقى جوفاء وهزيلة. بدأ بحركة “أمل” فأبعدها عن هويتها الأصلية واحتكر “المقاومة” المتضَمَّنة في اسمها وأمعن في قضم تيارها وأحالها رديفاً صُوَرياً لا خصوصية له، وبعدما كانت عنصراً أساسياً في التوازن الوطني جعلها عنصراً مُستَتبعاً في فائض قوّته، وعلى الرغم من أنه لم يرشحها لأي علاقة خاصة مع إيران فإنه ساهم في تدمير علاقاتها العربية، حتى مع النظام السوري… وفي الأثناء استدار نحو المكوّنات اللبنانية الأخرى فأزاح رفيق الحريري لأنه كان زعامة ذات امتداد عربي ودولي لا يمكن احتواؤها أو تطويعها، وراح يتلاعب بـ “الرئاسة الثالثة” للعبث بمكانة أي زعامة سنّية يمكن أن تظهر. وبعدما وضع “الحزب” زعامة عون في جعبته واستخدمها في الحرب الضروس على “تيار المستقبل”، عمد الى تفعيل زعزعته لزعامة وليد جنبلاط بإبقائه تحت التهديد الأمني أو في أحسن الأحوال تحت التهويش والتشويش من صبية طائفته، مستخدماً باسيل لبثّ سمومه في أمن الجبل. وأخيراً عمل “الحزب” ويعمل الآن على شيطنة “القوات اللبنانية” لئلا تتحوّل الى زعامة مسيحية غير خاضعة له.

وسط هذا العبث المبرمج، تحت ستار أن “حزب إيران” ما هو إلا حزب “لبناني”، أعادت إيران و”الحزب” استنساخ الأساليب الأسدية الخبيثة في هندسة التحالفات في لبنان وزادت عليها، فلا حزب ولا تيار ولا زعيم يستطيع أن يتصل بآخر ليتفاهم أو يتواءم أو يتحالف معه إلا باذن من “الحزب” ومن طريقه وبتوجيهاته، وكل ما يمكن أن يتم خارج هذا الاطار يُصار الى احباطه حتى لو تطلّب ردّ فعل اجرامياً. وهذا النهج التجريفي، بالاغتيال والترهيب والتهديد، هو ما جعل انتخاب رئيس الجمهورية من المستحيلات المحتملة على الدوام، فالرئيس لا يمكن أن يكون نتاج “تفاهم وطني”، بل يأتي بإرادة إيران ومعايير “حزبها” أو لا يأتي حتى لو طال الشغور.

شارك المقال