الوطن “المغيَّب”… في ذكرى الإمام “المغيَّب”!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

تمر الذكرى الـ 44 لتغييب الإمام موسى الصدر إمام الوطن والمحرومين من كل الطوائف اللبنانية، تمر والوطن لبنان بات هو الآخر “مغيَّباً” عن تفكير المسؤولين وعقلهم وضميرهم، في هذا البلد الذي يعاني منذ ما يقارب النصف قرن من نزق السياسيين وجشعهم وإرتباطاتهم الخارجية بإسم كل المقدسات، بعضهم بإسم قضية فلسطين، وآخر بإسم قضية العدالة الإجتماعية، وثالث بإسم قضية الوحدة والحرية والإشتراكية من جهة، وبعضهم الآخر بإسم السيادة والإستقلال والخوف على المصير من جهة أخرى.

منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ولبنان دخل نفق الصراعات الإقليمية، بسبب من نظامه الطائفي الجامد الذي فشل في مجاراة روح العصر والإستجابة للمتغيرات الإجتماعية والسياسية التي طرأت من جهة، وبسبب نزق وسذاجة البعض من الذين إختاروا “الثورة” طريقاً، فلم يستجيبوا للظروف الموضوعية التي تتحكم بالواقع اللبناني من جهة أخرى، فكان أن حمَّل الطرفان لبنان ما لا يطيق فإنفجر الصراع المسلح في 13 نيسان 1975، وقبلها كان الجنوب يعاني الأمرّين جراء الاعتداءات الصهيونية شبه اليومية على السكان الآمنين، في ظل ضعف ملحوظ للدولة قارب العجز عن الدفاع عن الأرض والشعب. في هذه الأجواء برز الإمام موسى الصدر لـ”يقاتل” على جبهتين، الأولى جبهة النضال ضد الفساد والظلم الإجتماعي الذي يرعاه النظام القائم، والأخرى جبهة الدفاع عن المظلومين من أبناء الجنوب لا سيما أبناء القرى الحدودية المتروكين لمصيرهم أمام آلة الحرب الإسرائيلية الشرسة، وسط لامبالاة عربية أيضاً بمصير هؤلاء الناس الذين كانوا يدافعون ويدفعون الثمن دفاعاً عن قضية فلسطين وعن الثورة الفلسطينية.

في ظل هذا الواقع المرير بشقيه الداخلي وعلى الحدود، بادر السيد موسى الصدر إلى تأسيس حركة المحرومين لتكون صوتاً لكل المحرومين في لبنان بغض النظر عن طائفتهم ومناطقهم، كما بادر سراً وبدعم من قوات الثورة الفلسطينية إلى تشكيل أفواج المقاومة اللبنانية “أمل” لتكون نواة عمل عسكري لبناني مقاوم بهدف حماية القرى اللبنانية وأهلها من الإعتداءات الصهيونية. مع بداية الحرب الأهلية وقف الإمام ضد الإقتتال الداخلي والإقتتال اللبناني – الفلسطيني، وكان يرى في هذا الصراع خطراً على لبنان عموماً والجنوب خصوصاً، فعمد الى محاولة التوسط وتهدئة الخواطر من دون جدوى، واعتصم في مسجد الصفا في رأس النبع رفضاً للإقتتال الذي إستمر وتطور إلى حرب طاحنة تداخلت فيها العوامل الداخلية والإقليمية الناتجة عن إتفاقية فك الإشتباك بين مصر وإسرائيل التي كانت باكورة التوجه المصري الى إقامة سلام مع إسرائيل، فكان أن دفع لبنان الثمن بحكم التواجد الفلسطيني على أرضه. إجتاحت إسرائيل لبنان عام 1978 وسط عجز عربي وخلافات جراء زيارة الرئيس المصري أنور السادات الى القدس المحتلة، وحصل ما كان يخشاه الإمام الصدر من تهجير وإحتلال، وهو ما أدى بعدها الى صدامات ما بين القوات المشتركة الفلسطينية – اللبنانية اليسارية، وبين السكان في الجنوب الذين باتوا يميلون الى حركة “أمل”. وكانت جولة عربية للإمام الصدر وهو الذي كان حريصاً بصورة دائمة على علاقات لبنان والشيعة خصوصاً مع العمق العربي، ذهب بهدف طلب الدعم لتعزيز صمود الناس في أرضهم أولاً، ولمحاولة شرح الواقع لإحباط أي صراع بين السكان والمقاومة الفلسطينية ثانياً، فكانت زيارته إلى ليبيا حيث “غُيِّب” هناك، ليكون هذا الغياب بداية “تغييب” الوعي الشيعي العروبي خصوصاً مع إنتصار الثورة الإيرانية بعدها بأشهر، لتبدأ مرحلة الإسلام السياسي الشيعي في لبنان وكأنها كانت هي الهدف من تغييب الإمام الصدر .

كان غياب الإمام الصدر وقبله الزعيم كمال جنبلاط، وبعده بسنوات طويلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مروراً بكوكبة من الشهداء اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين، ومن زعماء وسياسيين وإعلاميين ومفكرين ورجال دين، إبان الحرب وبعدها كان أبرزهم المفتي الشهيد حسن خالد والرئيس رينيه معوض وغيرهم، كان لغياب هذه الشخصيات أثر كبير على لبنان ومستقبله ومصيره، وكانت بلا شك مقدمة مدروسة ومخطط لها لما وصلنا إليه اليوم من إنهيار في جميع المجالات، بحيث بات لبنان دولة فاشلة بإمتياز بفضل غياب الساسة الكبار الذين كانوا كباراً حتى في خلافاتهم، وليصبح لبنان “لعبة” في أيدي الصغار من أبنائه الذين أوكلوا أمورهم إلى من هم خارج حدود الوطن، غير آبهين بمصير شعب كان عزيزاً فأذلوه، ووطن كان في يوم من الأيام “سويسرا الشرق” فحوّلوه إلى “كوكتيل شقف” من الشرق والغرب وما بينهما، فأضاعوه بفضل “حربقتهم” وشطارتهم المزعومة في تحصيل حقوق طوائفهم حتى بات الوطن لبنان “مغيّباً” كإمامه في دهاليز مصالحهم وسراديب أنانيتهم، وبات مجرد ذكرى يحتفلون بها على إستحياء ليوم واحد في العام هو يوم “الاستقلال”، كما يتذكرون الإمام ليوم واحد في العام هو يوم 31 آب المشؤوم.

لا نقول هذا الكلام ليُفهم على أنه تزكية للإمام الصدر على لبنان الوطن، لا أبداً فنحن من مدرسة تقول بأن “ما حدا أكبر من بلدو”، ولكن الكبار في تاريخ الشعوب يتماهون أحياناً مع الوطن ويتشابهون معه في مصائرهم ولو لفترة معينة، وإذا كان الإمام وهو الإنسان – المحكوم في النهاية بعوامل السن – قد غاب وقد لا يعود وإن بقيت ذكراه، فإن لبنان الوطن وإن غاب لفترة فهو باقٍ… وهم راحلون طال الزمن أم قصر، سيعود ويلفظهم، وإن غداً لناظره قريب.

شارك المقال