في زمن الشدائد والأزمات الوطنية… دار الإفتاء ضمانة للبنان التعايش

زياد سامي عيتاني

يتابع المراقبون بأهمية كبرى منذ أسابيع، المسعى الذي يقوم به مفتي الجمهورية اللبنانية، من موقعه المرجعي على الصعيدين الإسلامي والوطني، لعقد لقاء يجمع جميع نواب الأمة عن المقاعد السنية، بهدف توحيد الموقف من الإستحقاقات الدستورية الداهمة، في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان المهدد في هويته ونظامه وتوازناته ونموذجه التعايشي التعددي والمتنوع.

وتبرز أهمية اللقاء المرتقب، الذي يراهن عليه من تبقى من عقلاء وحكماء سياسيين في زمن الجنون والتهور السياسي، ليس لأنه يشكل محاولة للملمة شمل الصف السني المتشذي تشتتاً وتشرذماً، بل لأن مثل هذا اللقاء، وما سيصدر عنه من موقف ذي أبعاد وطنية عميقة ومسؤولة، من شأنه تصويب المسار السياسي العام المتدحرج، الذي تتخبط به البلاد، من جراء الأنانيات الزعاماتية السلطوية والخلافات الجذرية العميقة العدمية بين أركان السلطة المتهالكة، غير الآبهة لحالة الإنهيار الشامل والمتسارع، لاسيما على الصعد الإقتصادية والإجتماعية، الذي يكاد يجعل من لبنان وطناً متحللاً، فاقداً لكل مقومات الدولة.

وهذا الرهان، ليس من عبث أو فراغ، إنما هو نابع من قناعة صلبة وإيمان راسخ بالدور التاريخي لدار الإفتاء (بما توفره من غطاء شرعي بالمفهومين الديني والسياسي لهذا الدور)، الذي شكل منذ نشأة دولة لبنان الكبير، الضمانة الوطنية لنشأة لبنان، والتي حفظته، وأطفأت حرائق حروبه، وأعادت جمع ما فرقته الأزمات البنيوية بين مكوناته، خصوصاً في المحطات المفصلية، التي كانت تنذر بإنفراط عقد صيغته الفريدة في هذا الشرق.

فالطائفة السنية منذ تأسيس الكيان اللبناني عام 1920، شكلت الشرعية لنشأة دولة لبنان الكبير التي إحتفل بالإعلان عنها في “قصر الصنوبر”، حيث أن الصورة التاريخية للإعلان التي جمعت المفتي مصطفى نجا وبطريرك الموارنة إلياس الحويك، خير تعبير عن شرعنة الصيغة اللبنانية، بما يطمئن الشريك المسيحي…

أما خلال معركة الإستقلال عام 1943، فقد شكلت دار الإفتاء “رأس حربتها”، من خلال المواقف الوطنية لسماحة مفتي الجمهورية الأكبر الشيخ محمد توفيق خالد والتي بدت واضحة تماماً منذ اللحظة الأولى لتسلمه مسؤولية المركز الديني الأول للمسلمين في لبنان، حيث كان أحد أركان تلك المعركة الأساسيين.

ودلالة على المواقف الإستقلالية الصلبة للمفتي خالد، جدير إستعادة جرأة الموقف الذي أبلغه للجنرال شارل ديغول، الذي زاره في 26 آذار 1942 في منزله الصيفي في بحمدون، فقال سماحته خلال اللقاء: “إننا نحن كمسلمين وطنيين لا ننشد إلا التمتع باستقلالنا وكرامتنا الوطنية، وكمواطنين لا نريد إلا العدل والمساواة التامة المعنوية والمادية بين أبناء الوطن، يظللنا اتحاد زاهر مستمر لخير الجميع”.

مما حدا بديغول الى أن يقول له: “إن فرنسا هنا لتشجع الكرامة الوطنية ولمساعدة الشعوب للوصول إلى حقوقها الكاملة”….

ومع نشوب الحرب الأهلية التدميرية العبثية سنة 1975، حافظ المفتي الشهيد على الدور الوطني الجامع والمنفتح لدار الإفتاء، محاولاً بشتى الوسائل العمل مع مختلف المرجعيات الروحية والسياسية على إطفاء حرائق الحرب البغيضة، وإنقاذ لبنان من شر التقسيم الطائفي، فتميز بوعيه وتنوره عن سائر المرجعيات الدينية بأنه لم ينشئ ولم يتبنَّ أي تنظيم مسلح ذا هوية سنية، حرصاً منه على عدم إستدراج الطائفة الإسلامية السنية إلى ساحات القتال باسم الطائفة، لقناعته بأن الحرب لم تكن حرباً طائفية، بل حرب سياسية بامتياز، تتداخل فيها وتتحكم بها العوامل الداخلية والخارجية.

لذلك، عمل المفتي الشهيد حتى إستشهاده على تكريس النهج التاريخي لمقام دار الإفتاء الذي يقوم على المبادئ والقيم الوطنية الجامعة والضامنة للعيش الواحد بين مختلف العائلات اللبنانية، رافضاً كل أشكال التقوقع الطائفي والمذهبي لدار الإفتاء، على الرغم من شراسة ما تعرض له من حملات منظمة للنيل من مواقفه الوطنية، التي كانت موضع إحترام وتقدير من مختلف القيادات المسيحية قبل الإسلامية الحريصة على لبنان الرسالة والحضارة، بدليل أن بكركي فتحت أبواب صرحها لتقبل التعازي بإستشهاده…

وتجدر الإشارة في هذا المجال، إلى أن المفتي الشهيد، كان ينطلق بكل المواقف التي أطلقها حينذاك من “الثوابت العشر” لدار الإفتاء، التي صدرت في أعقاب القمة الإسلامية الجامعة التي انعقدت في الدار بتاريخ 21-9-1983، خلال أخطر مراحل الحرب التي عاشها لبنان، حيث شكلت تلك المبادئ منهجاً وطنياً متقدماً ورائداً، أسس لنقاش جدي وجوهري داخلياً وخارجياً، حول الصيغة الأمثل لإنهاء الحرب اللبنانية (متى نضجت الظروف الخارجية المتحكمة بالوضع اللبناني آنذاك).

وبالفعل عند إنعقاد مؤتمر “الطائف” لإنهاء الحرب اللبنانية وصياغة دستور جديد للبلاد، فإن روحية “الثوابت العشر” ونصوصها كانت جزءاً لا يتجزأ من “وثيقة الوفاق الوطني”، التي تحولت فيما بعد إلى دستور للجمهورية الثانية. ومن أبرز تلك الثوابت:

– لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وضمانها، وعلى مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع اللبنانيين من دون تمييز.

– لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دولياً، سيداً حراً مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم.

– رفض أي شكل من أشكال اللامركزية السياسية سواء طرحت في صيغة الكونفيدرالية أو الفيدرالية، أو الاتحاد بين ولايات، أو كانتونات، أو غيرها من أشكال الكيانات الذاتية.

إنطلاقاً من هذا المنهج الوطني العاقل والحكيم، الذي إتسمت به دار الإفتاء، منذ إنشاء الكيان اللبناني، على الرغم من الأثمان الباهظة، يجب التعاطي بإيجابية وتعاون وإنفتاح مع مسعى المفتي عبد اللطيف دريان الى عقد لقاء جامع لنواب الأمة عن المقاعد السنية في دار الإفتاء، في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان المهدد، وذلك بهدف تفعيل دورها الوطني الجامع والمسؤول والضامن، على أن “يطعم” اللقاء بشخصيات من النخب الوازنة من مختلف الاختصاصات الدستورية والإقتصادية والفكرية – السياسية، بغية الخروج بموقف متقدم، يكون أقرب إلى “وثيقة وطنية”، من شأنها أن تشكل “برنامجاً إنقاذياً”، يشكل قاسماً مشتركاً لما هو جامع بين اللبنانيين، إنطلاقاً من روحية “الثوابت العشر”، التي لا تزال “عناوين عريضة” (قابلة للحياة، لا بل حاجة وضرورة)، لأي صيغة تطويرية للنظام اللبناني، القائم على الوحدة الوطنية والعيش المشترك، مع إحترام التنوع الديني والثقافي، ضمن نموذجي حضاري، تكون الدولة المركزية القادرة والقوية هي الإطار الدستوري الجامع له.

شارك المقال