في الذكرى 102 على نشأته: “لبنان الكبير” واحد أو لبنانان؟

جورج حايك
جورج حايك

لم يعد سراً أن لبنان الكبير الذي تأسس عام 1920 بات متصدعاً، ينهار من كيانه كل يوم جزء، وهذا ما يمكن استنتاجه بوضوح في الذكرى 102 على نشأة “لبنان الكبير” والتي مرّت من دون مبالاة في ظلّ التعثّر في تأليف حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية والجدل البيزنطي في تفسير بنود الدستور وانهيار اقتصادي ومعيشي مرعب وهيمنة ميليشيا “حزب الله” على قرار الدولة وتنفيذ مشروع ايراني لا يصب بالمصلحة اللبنانية، واستفحال الفساد في الإدارة!.

إذاً، لبنان يمرّ في أصعب مرحلة عبر تاريخه الحديث، والخطر على كيانه تخطَّى حدود الخطوط الحمر كلها، وبات قاب قوسين من اعلانه دولة فاشلة، إذ أدرج دولياً عام 2021 من بين الدول الـ34 الأكثر فشلاً من أصل 179 دولة، مما يعيدنا إلى ما سبق وحذر منه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لو دريان في آب العام 2020 حين اعتبر أن “الخطر اليوم هو زوال لبنان”.

في أول أيلول 1920، وفي ذلك اليوم وقف الجنرال هنري غورو، قائد القوات الفرنسية في المشرق، على درج القيادة وأعلن قيام “لبنان الكبير”. لكن الكيان اللبناني لم ينشأ في ذلك اليوم إنما هو قديم جداً كمصر وبلاد ما بين النهرين، ومرّ مثل كل الدول المتعددة المجموعات القومية باختبارات تاريخية هائلة لم تكن دائماً هادئة في الشرق الأوسط مثل اليمن، العراق، السودان، إيران وتركيا.

منذ القرن السابع الميلادي، بدأت هذه الاختبارات الديموغرافية على مساحة الـ10452 كيلومتراً مربّعاً، والكيان الصغير الذي بدأ مع تكتل المسيحيين وخصوصاً الموارنة لم يكن هدفه دولة مارونية لأنهم أرادوا مشاركة الجبل مع الدروز، ففكرة التعايش كانت تكبر ككرة الثلج، والاختبارات تطوّرت بعد أعوام نحو السواحل والسهول بأكثريتها من الطوائف الإسلامية، وتوسع جبل لبنان فوصل كيانه السياسي إلى شمال سوريا وانحسر إلى شمال لبنان الحالي، فكَبُر وصغر حسب المراحل، إلى أن جاء العثمانيون وأخرجوا المماليك، وتحول جبل لبنان إلى إمارة بقيادة درزية وعمق ماروني، لثلاثة قرون. وبعد حربين أهليتين في الجبل عامي 1840 و1860 أعلنت القوى العظمى إقامة “متصرفية جبل لبنان”، المستقلة ذاتياً عن السلطنة العثمانية، أو ما عُرف بـ”لبنان الصغير” وهو أول كيان لبناني حصل على اعتراف دولي في التاريخ الحديث، ولكنه كان من دون بيروت، وطرابلس وسهل البقاع.

تعرّض “لبنان الصغير” لحصار عثماني خلال الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى تجويع أهله وهلاك ثلث سكانه، وهجرة ثلث آخر، وبعد انتصار الحلفاء والعرب على تركيا، أعطت فرنسا خياراً لـ “لبنان الصغير” أن ينال استقلاله بحدوده، أم تُوسع رقعته لتضم بيروت والساحل والجنوب والبقاع، وكانت مرة أخرى فكرة التعايش أقوى، فاختارت حكومة جبل لبنان أن توسع حدوده، وأُعلنت الدولة الجديدة في أول أيلول 1920.

عام 1926 تبلورت أكثر فكرة التعايش المسيحي – الاسلامي واتفق السياسيون اللبنانيون بكل طوائفهم على دستور شبيه بالدستور الفرنسي، ولكنه مُطعّم بنظام طائفي، كانت عواطفهم في مكان وعقولهم في مكان آخر، ولم يدروا أن ما اتفقوا عليه سيؤسس لصراعات مستقبلية بعد 50 سنة أي ابتداء من العام 1975، فهذا الدستور لا هو علماني، ولا هو فيدرالي، مما فتح أبواب التأثير الخارجي عليه بعد الاستقلال، واستفاد اللبنانيون من دون شك من التنظيم الإداري والمؤسسات الثقافية الفرنسية لعقدين.

ولعل معركة الاستقلال عام 1943، كانت النموذج الأقوى عن فكرة التعايش وولادة شعور وطني تشكّل تحت الانتداب الفرنسي وتجسّد بإرادة الاستقلال لـ”لبنان الكبير” فخرجت فرنسا من لبنان، وتم انتاج ميثاق وطني قائم على قاعدتين: الأولى، معادلة توزيع طائفي غير فيدرالي، والثانية، هي معادلة هوية نصفية بين من يؤمن بالقومية العربية، وأكثريتهم من المسلمين، ومن يؤمن بـ “قومية لبنانية”، ومعظمهم من المسيحيين. ولعل هذه الخيارات نجمت عن انتقال لبنان من كيان جبل لبنان إلى دولة “لبنان الكبير” عام 1920، فأنتجت البورجوازية الحاكمة شعار: “لبنان ذو وجه عربي” لإرضاء الطرفين، بدلاً من فيدرالية دستورية كلاسيكية.

لا يمكن القول ان تجربة “لبنان الكبير” كانت فاشلة منذ الأساس، وقد تسنّى لها عيش نجاحات كبيرة ومرحلة ازدهار بين عامي 1943 و1975، فانتعش الاقتصاد وشهد لبنان نمواً اجتماعياً وتجارياً، مستفيداً من الخليج، وعدم المشاركة في الصراع العربي – الإسرائيلي إلا في عام 1948. واستثمرت السلطات اللبنانية الصداقات الدولية، فتحول البلد إلى ما كان يُسمى “سويسرا الشرق”، وباتت هناك طبقة غنية وأخرى بورجوازية تستفيدان من السلم الأهلي، إلا أن “الاتجاهات القومية” القديمة ومشاعر الغبن لدى المسلمين السنّة استمرت تحت الرماد، ناقمة على ما يُسمى المارونية السياسية.

استمرت تجربة التعايش اللبنانية حتى عام 1975، تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية، ثم دخلت في نفق مظلم فانقسم “لبنان الكبير” بين مناطق سيطرت عليها منظمة التحرير الفلسطينيّة، وانضمت إليها أحزاب “اليسار العروبي” تحت راية “الحركة الوطنية”، ومناطق سيطرت عليها أحزاب اليمين، التي توحدت تحت راية الجبهة اللبنانية و”القوات اللبنانية”. وبعد انقسام الجيش، في صيف 1976، دخلت قوات حافظ الأسد إلى لبنان، واشتبكت أولاً مع الفلسطينيين لتردعهم، وبعد ذلك هاجمت المناطق المسيحية لسنوات!.

ظنّ الجميع أن فكرة التعايش المسيحي – الاسلامي انتهت، لأن الصراع كان دموياً، واتخذ منحى طائفياً في مراحل عديدة من الحرب، وشهد ذلك الوقت نزعات تقسيمية في استعادة لكيانات لبنانية أصغر، إلا أن إرادة التعايش ظهرت مجدداً وفي ذروة الحرب مع وصول الرئيس بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، مطلقاً شعار الـ10452 كيلومتراً مربّعاً ورغبة بلبنان واحد قوي يضم المسلمين والمسيحيين، فلاقاه الزعماء المسلمون في منتصف الطريق، وعاش اللبنانيون 20 يوماً من التلاقي وحلم الوحدة، إلا أن الحلم سرعان ما اندثر عندما امتدت أياد خبيثة لتفجّر المكان الذي كان يتكلم فيه البشير في الأشرفية واستشهدت معه أحلام التعايش، وعاد اللبنانيون إلى الاقتتال.

وعلى الرغم من اتفاق الطائف عام 1989 الذي وضع حداً للحرب الأهلية، وعادت فيه فكرة التعايش الاسلامي – المسيحي إلى الواجهة برعاية عربية وخليجية، بقي لبنان الكبير محتلاً من سوريا واسرائيل، ويبدو أن ظلم الاحتلال خلق إرادة لبنانية وحدوية تجلّت في تكتل المعارضة اللبنانية التي تشكّلت من البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير والرئيس رفيق الحريري ولقاء قرنة شهوان. تعرّضت هذه المعارضة للاضطهاد والقمع من الاحتلال السوري، إلا أن نقطة التحوّل كانت مع اغتيال الحريري، وانتصرت فكرة التعايش مرة أخرى، في قالب ثورة الأرز عام 2005 التي حررت لبنان من النظام السوري، بعد انسحاب الاسرائيليين من لبنان عام 2000، نتيجة عوامل عديدة من بينها رغبة اسرائيل في تجنب ضربات “حزب الله” لها في الجنوب.

منذ عام 2008 حوّل “حزب الله” لبنان إلى قاعدة كبرى للانفلاش الإيراني في المنطقة، لينطلق منه إلى الانخراط في حروب المنطقة في سوريا والعراق واليمن، ووصل إلى فنزويلا، وزوايا أخرى من العالم، فحوّل الدولة الصغيرة التي ساعد الفرنسيون على إنشائها عام 1920 إلى مساحة جغرافية يستعملها “الحزب” ليقوم بعمليات عسكرية وأمنية ومالية في مختلف بقاع العالم، مورطاً هذا البلد المتعدد الطوائف في أزمات دولية، وضد العالم العربي والغرب معاً. هكذا دخل “الحزب” في مواجهة مع مكوّنات لبنانية أخرى، فانتفضت ثورة شعبية عارمة عابرة للطوائف في بيروت ومعظم المدن اللبنانية رافضة كل الطبقة السياسية منذ عام 1943، ومطالبة بإسقاط النظام برمته. فتصدى لها “حزب الله” وقمعها، ولو انتصرت هذه الثورة لكانت كرّست ارادة التعايش الاسلامي – المسيحي، عكس المشروع الذي يفرضه “الحزب”، وهو مشروع هيمنة لمصلحة ايران.

لا تزال الانهيارات تتوالى: انفجار مرفأ بيروت، تعطيل المؤسسات الرسمية، افلاس مشاريع المستشفى والمدرسة والجامعة والمصرف… والأهم ضرب مشروع “حياد” الدولة مما يسبب عزلة لبنان عن المجتمعين العربي والدولي.

لا بد من الاعتراف بأن مشروع “حزب الله” إذا انتصر يعني نهاية “لبنان الكبير”، ومن الواضح أن “الحزب” نجح حتى الآن في ضرب مقوّمات الدولة، لكنه عاجز عن فرض مشروعه وخلق لبنان جديد، ولو تمكّن من ذلك سيكون لبنان “مسخاً” نرى ملامحه في دولة فقيرة، معزولة، منهارة اقتصادياً، يُذل شعبها كل يوم أمام محطات البنزين والأفران والمصارف!.

لا لم تمت فكرة التعايش، لأن أكثرية اللبنانيين الساحقة تريد دولة من دون أي ميليشيات وانتماءات إقليمية لإيران والتكفيريين، إلا أن عدداً متزايداً من اللبنانيين بات رافضاً الاستمرار بـ”لبنان الكبير” ما دام “حزب الله” ملتصقاً به، ونقرأ في مواقع التواصل الاجتماعي تغريدات من عمق الألم تعلن سقوط الكيان الذي أعلن في ايلول 1920، فما دام “حزب الله” متمترساً في “لبنان الكبير”، يدعو هؤلاء اللبنانيون المقهورون الى إقامة نظام جديد على أرض لبنان الكبير: فيدرالية، علمانية، دولة مدنية… وذهب البعض الآخر إلى طرح نظرية التقسيم، بعيداً عن مناطق “حزب الله”. واللافت للانتباه أن هؤلاء اللبنانيين الداعين الى الانفصال عن “الحزب” عملياً يريدون مساحة للعيش المشترك بين سنّة، ومسيحيين، ودروز، وكل من انفصل عن “الحزب” من الشيعة، وليس التقسيم بالمنطق الطائفي الآحادي، وهذا ما يُطمئن.

بكلام آخر، أكثرية اللبنانيين يريدون لبنان أصغر يعيشون فيه بسلام بعيدين عن الميليشيات الإيرانية، وما يقصدونه فعلاً هو رفض العنف، والفاشية، والإرهاب وثقافة الموت.

أخيراً، إنّ الانهيار الكبير آتٍ، و”لبنان الكبير” بحاجة إلى مبضع جرّاح عاقل وحكيم ينجح في عملية الإنقاذ من دون موت المريض، فهل يكون رئيس الجمهورية المقبل، هذا الجرّاح العاقل أو سندخل في فراغ طويل لا ينتهي إلا بتدخل دولي يعيد تأسيس لبنان وفق معايير جديدة؟ وهل يجدد اللبنانيون بشتى طوائفهم، ايمانهم بالتعايش، ليستمر “لبنان الكبير” حياً؟ لا شك في أننا نعيش مرحلة مصيرية، فليكن تفكيرنا ورؤيتنا بحجم هذا الحدث وأهميته وإلا لن ينفع الندم!

شارك المقال