لبنان والعراق!

اكرم البني
اكرم البني

الحقيقة التي تلقى الإجماع اليوم هي أن لبنان والعراق يمران بمرحلة صعبة وحساسة، ولنقل بحالة توجس وترقب من احتمال اندفاع ما يكتنف كل منهما من خلافات وتنازعات نحو حرب أهلية لن تبقي أو تذر، وثمة أسباب عديدة تشير إلى تشابه الأوضاع في البلدين وتشجع على وضعهما في سلة واحدة من حيث تداعيات ما يثيره الراهن واحتمالات المستقبل.

أهم عوامل التشابه، هي تحول البلدين إلى مركزي قوة ونفوذ لإيران في مشروع توسعها الإقليمي تحدوها قدرة لافتة على التدخل المذهبي في تقرير مصيرهما، أو استخدامهما كأوراق ضغط ومساومة، عبر ما خلقته فيهما من ركائز وأدوات وميليشيات.

في لبنان لا يزال المكون الشيعي متحداً وثمة حزب واحد هو الطرف الأقوى والأقدر على التحكم به وتوجيهه بما ينسجم مع مرامي طهران، هو “حزب الله”، من دون أن نغفل وزن حركة “أمل” إلا أنها لا تضع نفسها عادة في مواجهة تلك المرامي أو تعاديها، بينما تتنوع الأطراف المؤثرة في المكون الشيعي العراقي، والذي بات ينقسم بين من يوالي النفوذ الإيراني هناك ومن يناهضه أو يرسم مسافة متحفظة منه، وتبدو كتلة مقتدى الصدر هي الأوضح في الموقف الرافض للتدخل الإيراني في شؤون العراق بينما تتجمع حول ما سمي “الاطار التنسيقي” الأطراف الداعمة لاستمرار الدور الإيراني، ويدعمها كل ما يدور في فلك طهران من ميليشيات مذهبية مسلحة. والأوضح أن النزاع في البيت الشيعي قد احتقن بعدما أحرز التيار الصدري نجاحاً لافتاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، على حساب تراجع وزن الطرف الآخر ومواقعه، وبينما اكتسب التيار الصدري شعبيته الكبيرة لدى الكثير من فقراء الشيعة، من خلال محاولته مزج توجهاته الدينية مع نزعة وطنية عراقية صريحة، لا تزال تفتن الآخرين عقلية العنف والارتهان المذهبي ومنهج فرض الذات بأسلوب القوة أو التهديد بها، وعدم الاعتراف بالإرادة الشعبية وما تقرره.

ثمة تشابه بين البلدين في طرق المحاصصة الطائفية لتوزيع مناصب السلطة، وما يستتبعه ذلك من قدرة على فرض شخصيات وقوى بما ينسجم مع المخطط والمشروع الإيرانيين، وإلا تعطيل دور الدولة ومؤسساتها إلى أجل غير مسمى، الأمر الذي تكرر في لبنان مرات عديدة، وربما سيعاد تكراره مع اقتراب استحقاق رئاسة الجمهورية، لكنه ينفذ الآن في العراق من خلال تعطيل تشكيل حكومة توافقية من غالبية حاز عليها مقتدى الصدر وحلفاؤه من السنة والأكراد، ما وضع العراق منذ أكثر من عشرة شهور في مناخ أزمة سياسية عنوانها الفراغ المؤسساتي والإخفاق المستمر في التوصل إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطنية.

يبدو أن إضعاف الدولة وتوزيع سلطاتها طائفياً ومذهبياً واجهاض دورها العمومي كمحتكر للقوة، هو هدف ينسجم مع سيناريو اللادولة، الذي طالما اتبعه حكام طهران في تدخلاتهم لإضعاف مجتمعات الغير وتسهيل سيطرتهم على مقدراتها. وما يزيد الطين بلة عندما لا تنهض وجوه التنافس على الحصص والمواقع السياسية بسبب المصالح الداخلية بل تبدو في أغلب الأحيان كأنها استطالة للصراعات والتخندقات الإقليمية، أو تظهر أشبه بردود أفعال ومنازعات بين قوى تلتف حول أهداف ومرامي أملتها الاعتبارات الخارجية أكثر من متطلبات المجتمع اللبناني أو العراقي وحاجاتهما، ما يجعل المواقف ثوابت غير قابلة للنقاش والتعديل، حتى لو كان الطوفان، والقصد أن مختلف القوى السياسية في كلا البلدين لا يزال يكتنف ممارساتها الأمراض البغيضة ذاتها من حضور الحسابات الضيقة والأنانيات والأطماع الشخصية ناهيك عن إحجام بعضها وتردده في صياغة سياساته بدلالة الداخل الوطني ومعاييره. كل ما سبق فتح ويفتح الباب على اندفاعات ومناورات غير محمودة وربما أفضت، كحال التيار العوني، الى اصطفافات سياسية لا تؤدي بالمجتمع، في نهاية المطاف، سوى الى الإحباط والتفسخ، والقصد أن غالبية الأطراف التي تتشكل منها النخب السياسية والثقافية، اللبنانية والعراقية، متفاوتة الولاء للهم الوطني إن صحت العبارة، ويبدو أن غالبية قادتها تضع مصالح الجماعات التي تمثلها وما يحكمها من ارتباطات خارجية فوق المصلحة الوطنية، الأمر الذي أضعف ويضعف نشوء تيارات وطنية صادقة وتناميها في المجتمع، كما يضعف من مكانتها نفسها في المشهد السياسي، عبر تحويلها إلى مجرد بيادق في صراعات كبرى تتجاوز الميادين المحلية ومتطلباتها.

أيضاً يتشابه الطرفان المواليان لإيران في العراق ولبنان في دوريهما بقمع الانتفاضة الشعبية التي جرت بالتتابع في البلدين، فلم تتوانَ الميليشيات البغيضة في العراق كـ “حزب الله” و”عصائب أهل الحق” وغيرهما، عن ممارسة التهديد والقمع الصريح والمباشر ضد الانتفاضة بما في ذلك ترويع الناس وارهابهم، عبر اغتيال أهم الناشطين أو اختطافهم وتغييبهم، ناهيك عن حرق خيامهم وبعض المقرات السياسية والمدنية المؤيدة لهم، وتكرر المشهد في لبنان وإن بدرجة أقل في ما يتعلق بحملة الاغتيالات، لكن كل هذه الوسائل القمعية والارهابية تبقى حاضرة، كاغتيال لقمان سليم مثلاً، إن لم يتحقق هدف الحفاظ على الوضع القائم، واجهاض فرص التغيير وتحجيم فاعلية دعاتها ونشاطهم المتميز، خاصة وأن غالبيتهم من فئة الشباب الذين أعلنوا موقفاً وطنياً جدياً ودعوا الى تعزيز حضور الدولة ودورها ورفض الانقسام المذهبي، ما يفسر الحصة اللافتة من النواب الوطنيين وعابري الطوائف التي أحرزتها قائمة مقتدى الصدر في الانتخابات، كما وصول عدد من الشخصيات المستقلة إلى البرلمان اللبناني، التي تجاهر برفضها سلاح “حزب الله” والنفوذ الإيراني.

أخيراً، وفي سياق مقاربة البعض ما يجري من أحداث في لبنان مع تلك التي تجري في العراق، تبدو النتائج ساطعة في تحول كل منهما، ليس إلى مثل يحتذى، بل إلى نموذج فاشل ومنفر لدى أي عاقل، ولنقل تظهر تلك النتائج كليهما كتجربة مؤلمة ومؤسفة من حيث الاستهتار بمصالح الناس وحقوقها، من حيث التعبئة المذهبية المريضة والمتخلفة، من حيث التغليب البغيض لمنطق القوة والعنف والمكاسرة، من حيث استشراء الفساد وسرقة المال العام والاستئثار بثروات البلاد، من حيث العمل الدؤوب على تفكيك الدولة واجهاض دورها العمومي وتعطيل المؤسسات والاستهزاء بها، والأهم من حيث هذا المستوى المرير من الخراب الاقتصادي والمعيشي الذي وصل اليه البلدان.

شارك المقال