دونكيشوتية باسيلية متوقعة

صلاح تقي الدين

كما كان متوقعاً، لم يستطع رئيس “التيار الوطني الحر” أن “يبلع” الاتهامات التي وجهها رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع إلى العهد ورئيسه وإليه شخصياً، حتى بادر إلى دعوة الاعلاميين إلى التجمّع حوله في نهاية الاجتماع الدوري لتكتله النيابي ليشنّ هجوماَ دونكيشوتياً ضد منتقديه، ويزيد من استعار الحملات الخطابية التي من الطبيعي أن تكون مرافقة لبداية المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، موجهاً انتقاداته إلى رئيس الحكومة المكلف ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، بما يمكن أن يطلق عليه وصف “ثلاثة بواحد” في خطاب واحد.

لكن في حين أن بري الذي هاجم بشكل غير مسبوق عون وباسيل وفريق “ما خلّونا” خلال الاحتفال المركزي الذي أقامته حركة “أمل” بمناسبة الذكرى 44 لتغييب الامام موسى الصدر في صور، استخدم عبارات لم تخرج عن إطار “الأدب” السياسي، فإن باسيل، متأثراً بصورة كبيرة بالشكل الخطابي لعمه عون، استخدم المفردات التي أقل ما يقال فيها انها بعيدة عن “اللياقة” ولا تدخل إلا في إطار الشعبوية التي تبيّن أنه من أمهر من يستخدمها لاستثارة عطف متابعيه وأنصاره، بحيث يخاطبهم باللهجة المحكية متسخدماً المفردات “الزقاقية” التي تروق لهم.

وكذلك فعل في ردّه على جعجع، إذ لم يوفره من الصفات التي تدغدغ مشاعر “الباسيليين” و”العونيين”، فراح، وهذا ليس غريباً عن مساره السياسي، يفتح له “الدفاتر العتيقة” والتي سبق لجعجع أن تلا عنها “فعل الندامة” مراراً، ناهيك عن دفعه “سجناً” ثمناً لما أدين بارتكابه.

كل ما جرى، كان بديهياً، فمن “يطرق الباب يسمع الجواب” كما يقول المثل الشعبي، لكن أن يكون الجواب حاملاً في طياته “تهديدات” وأخطرها التهديد الدستوري، فهذا لا يطلق عليه إلا وصف “الدونكيشوتية” لأن باسيل مندفع في تخيلاته وتوهماته غير العقلانية إلى درجة تشبه شخصية دون كيشوت الذي خاض معارك وهمية لم يكن فيها خصمه موجوداً أو حقيقياً، بل جلّ ما فعله كان محاربة “طواحين الهواء” مستعيناً بحصان أعرج وسقيم، كمثل حال من يعتمد عليهم جبران.

قد تكون حملة باسيل ضد بري وجعجع لها ما يبررّها في معرض الرد، غير أن الأخطر كان الانتقاد المباشر الذي وجهه إلى ميقاتي وتهديده بعدم الرضوخ لفكرة أن تستلم حكومته صلاحيات الرئيس وكالة عند انتهاء ولاية عمه وخروجه من القصر الجمهوري، وكأني به يستعيد التاريخ وما قام به عون في العام 1988 عندما لم يعترف بحكومة الرئيس سليم الحص آنذاك، واستمرّ في اغتصاب السلطة بحكومته العرجاء الفاقدة للميثاقية عقب استقالة الوزراء العسكريين المسلمين منها، وصولاً إلى إخراجه عنوة تحت وابل قصف طائرات “السوخوي” ولجوئه إلى السفارة الفرنسية القريبة من “قصر الشعب” قبل أن يغادر إلى منفاه في فرنسا تاركاً زوجته وبناته الثلاث خلفه.

هذا وجه من وجوه المعركة الدونكيشوتية التي يبشّر باسيل اللبنانيين بأنه على استعداد لخوضها، تارة بحجة أنه بعد خروج عون من بعبدا سيكون في الحكومة 12 وزيراً يمثلون عون يكونون بمثابة 12 رئيساً للجمهورية، وتارة بتهديد اللجوء إلى خطوة “دستورية” قد يكون المستشار في القصر الجمهوري الوزير السابق سليم جريصاتي قد صاغها، أو هو قيد الاعداد لها، تسمح لعون بتشكيل حكومة انتقالية ويوكل رئاستها إلى صهره لتتولى قيادة المهمات الرئاسية بعد مغادرته.

حقاً إنها معركة دونكيشوتية، فلا ما بعد الطائف شبيه بما قبله، ولا ميزان القوى الداخلي والاقليمي يميل إلى جانبه لكي يقدم على مغامرة غير محسوبة النتائج. ويمكن القول تحديداً ان أكثر من سيقف في وجه مثل هذه المغامرة “الحمقاء” إن حدثت، سيكون “حزب الله”، الداعم الأول والرئيس لباسيل وعمه، على الرغم من تبريرات الحزب الدائمة لحاجته إلى “الغطاء” المسيحي الذي وفّره له عون و”التيار الوطني الحر” طيلة السنوات التي تلت توقيع اتفاق “مار مخايل” الشهير.

وكان باسيل يردّ مباشرة على ما قاله ميقاتي عقب اجتماعه إلى رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بأن “حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها قادرة على استلام صلاحيات الرئاسة وكالة في حال عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية”.

وطلب باسيل من ميقاتي أن يكثّف جهوده لتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيات، وكأنه بذلك يحاول ذرّ الرماد في العيون، بحيث أن القاصي والداني يعلم أن ميقاتي سلّم عون تشكيلة حكومية في التاسع والعشرين من حزيران الماضي رفضها الأخير بعد أن أطلع عليها باسيل الذي كعادته في جميع مراحل تشكيل الحكومات، يصطنع العراقيل ويضع الشروط التي تناسبه أو يدفع عمّه الى القول “كرمال عيون الصهر عمرو ما يكون في حكومة”، وهذه الشروط تتكرّر اليوم مع ميقاتي الذي يرفض إعطاء باسيل أي ورقة يستطيع الاستفادة منها في حال وقع الشغور الرئاسي، وهذا هو المتوقع.

غير أنه لو استقر باسيل على دفع ميقاتي الى تشكيل الحكومة، لكان ربما يمكن تفهّم موقفه، أما أن يجيز لنفسه صلاحية تفسير الدستور كما يناسبه، أي أن يمنع عن حكومة تصريف الأعمال صلاحية استلام مهام الرئاسة وكالة، أو التهديد بـ”بدعة” دستورية تدخل البلاد في أتون “محرقة” لن تبقي على شيء من هيكل الدولة المنهار أصلاً، ففي هذا ليس معركة دونكيشوتية فحسب، بل محاولة انتحار قد لا يدفع باسيل ثمنها بمفرده، بل كل الكيان والصيغة التي قام على أساسها.

شارك المقال