مقهى الحاج داود (٢/١)… مَعلَمٌ بيروتيّ عريق وعتيق نُقش فيه جزءٌ من تاريخ المدينة

زياد سامي عيتاني

كعروس، أو كحورية بحر، كان يتمدّد بجماله الباهر وسحره الخلّاق وبساطته الجذّابة على شاطئ “الزيتونة”.

كان ينسكب فيه جمال، مرسوم بألوان ولا أحلى، يبهرك كلّ ما تراه وتسمعه وأنت في داخله، حيث تشعر وكأنّك مركب خشبي ثابت فوق سطح البحر، محاطاً ببيوت حجرية يكسوها القرميد الأحمر: البحر يهدر، تطرب بسماع هدير و”فقش” الموج، الذي ينساب على أعمدته الخشبية المغروسة في قعر البحر، وكأنّه نغم موسيقي، يعجز أيّ ملحن عن تأليف مثيل له.

يمتدّ بصرك إلى البعيد، فتمتلئ عيناك بروعة بحر بيروت، وتبحر إلى آفاق واسعة من الخيال والتأمّل والراحة النفسية، تنسيك كلّ مشكلات الحياة اليومية وهمومها بكلّ تعقيداتها…

إنه “مقهى الحاج داود”، ذلك المَعلَم البيروتيّ العريق والعتيق، الذي كان جزءاً من نبض مدينة بيروت، ونقطة استشعار لحركة ناسها من محليين ووافدين، حيث بفضل هذا المقهى المتواضع، اشتُهرت لاحقاً محلة “الزيتونة” التي يستدلّ عليها باسم “الحاج داود”، بعد أن اتسع فيها العمران، لتتحوّل فيما بعد إلى منطقة سياحية بامتياز، عندما انتشرت فيها المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية، وصار ليلها يتصل بنهارها، لا تعرف النوم، ولا تشبع من السهر.

كان كلّ تفصيل من تفاصيل المقهى المعتق بفعل مرور السنين والحقب الزمنية، وكلّ جزء فيه، مهما كان بسيطاً، يحكي قصة صاحبه البيروتيّ الحاج داود بن عبد الكريم بن حسن الخطاب، ويروي ذكريات وحكايات أجيال رواد المقهى التي تعاقبت جيلاً بعد جيل، حيث حفرت على جدرانه وطاولاته وكراسيه، وكأنّها تدوّن تاريخ المكان وناسه.

فالحاج داود الخطاب تمكّن بحكم صداقته برئيس ميناء بيروت من أن يستملك عشرة أذرع من أملاك الدولة في محلة “السمطية” التي عُرفت لاحقاً بمنطقة “الزيتونة”، حيث بنى على الجزء الصخري منها عام 1870 “عرزالاً” خصّصه لجمع أصدقائه واستضافتهم لتدخين النرجيلة، في موقع مطلّ على البحر ولا أروع، خصوصاً وأن العلاقة بين “البيارتة” وبحر بيروت علاقة سحرية، عمرها من عمر صخورها الدهرية ورمولها الذهبية.

وبعدما استلطف أصدقاء الخطاب مجلس “العرزال” وموقعه أقنعوه بتحويله إلى مقهى، ليكون ملاذاً لأبناء المدينة الراغبين بالجلوس في مكان عام مطلّ على بحرها.

أعجب الحاج داود بالفكرة، واقتنع بها، وأخذ بنصيحة أصدقائه، وعمل على تحويل “العرزال” إلى مقهى، من دون أن يعتقد في حينه أن هذا المقهى سيتحوّل يوماً ما إلى مَعلَم تراثيّ، ورمز بيروتيّ، ومقصد لكلّ من يبحث عن مكان ممتع وهادئ يريح نظره برؤية “الأزرق الكبير”، مع تذوّق اللقمة الطيبة، أو لعب “دق طاولة” مع “نفس أركيلة” وإرتشاف القهوة أو الشاي.

وما لم يكن يتوقعه الخطاب، تحقّق بالفعل، إذ نجح من خلال المقهى الذي حمل اسمه، في رسم معالم مكان يوحي بكثيرٍ من عبق التراث البيروتيّ، على الرغم من محدودية المساحة داخل هذا الفضاء الخشبي، التي عوّضتها الرّمزيّة الواسعة للمكان.

تميّز “مقهى الحاج داود” عن سواه من مقاهي بيروت بكلّ شيء. أول ما كان يميّزه موقعه الداخل في البحر، وعلى امتداد صخري يعلو سطح البحر بثلاثة أمتار، قائم بصلابة على أعمدة من خشب القطران الصلب، التي نصبت عميقاً في البحر، مما جعله عنيداً في مقاومته لكلّ العواصف العاتية ولرطوبة وملوحة مياه البحر الفتاكة، فصمد عقوداً من الزمن غير آبه لقسوةِ الطبيعة ومفاجآتها.

كما تميّز أيضاً بأنّه مصنوع بأكمله من الخشب، بحيث تمدّدت على أعمدته أرض المقهى من ألواح خشبية، فكان الجالس يرى سطح البحر من بين فواصل تلك الألواح، وما أحدثه فيها الزمن من ثقوب وتآكل، من دون أن تتمكّن من النيل منه.

وحتى جدران المقهى كانت خشبية، تخرقها النوافذ الزجاجية، تتيح لضوء الشمس منح المكان روحاً جديدة من خلال فسحة ضوء ماتعة ليبدو بحيوية دائمة، فيأنس رواد المقهى صيفاً برؤية سكون البحر الذي تداعب أمواجه الهادئة صخور الشاطئ بغنج ولطف، وشتاءً بمشاهدة الأمواج الغاضبة التي تلطم النوافذ من غير أن تلحق بها أيّ أذى أو ضرر، وسط تسرّب صوت هدير الموج من بين فتحات وشقوق أرضية المقهى، وكأنّها إيقاعات موسيقية صاخبة.

وليكتمل تمايز المقهى، فقد كُسي لاحقاً سقفه بالقرميد الأحمر، الذي جاء استكمالاً لبنائه الخشبي، ليكون تحفة هندسيّة فنيّة غاية في الروعة، على الرغم من بساطة البناء والإنشاء الذي كان بعيداً كلّ البُعد عن كلّ أشكال “الفخفخة”.

داخل “مقهى الحاج داود” كانت تتوزّع طاولات ذات أسطح من رخام أبيض فوق هيكل وأرجل من حديد، مغطاة بشرشف مربعات حمر وبيض، ناصعة نظيفة، وحولها كراس من قش وخيزران، يجلس عليها الزبائن من مختلف شرائح المجتمع البيروتيّ، الذين جعلوا منه مكاناً لترسيخ الروابط والعلاقات الإجتماعية في ما بينهم، بعيداً عن كلّ أشكال الطبقيّة.

الجزء الأول

شارك المقال