إشکالية الولاء الديني والانتماء الوطني

السيد محمد علي الحسيني

إشکالية الولاء للدين أم الدولة، إشکالية قديمة جدّاً قدم الإنسان، حيث لم تكن هناك فترة من الزمن خلت من هذا الصراع والجدل حول طبيعة الحكم في الدول، وهل الدين منفصل عن الدولة أم أن الدين والدولة مندمجان معاً؟ هذه الإشکالية ليست منحصرة ومختصة بالإسلام، بل دائرة على مستوى كلّ الأديان بما في ذلك عند اليهود والمسيحيين.

انتشار التوجهات الدينية انعكس على عملية الربط بين الدين والوطن

عند إلقاء نظرة على التاريخ القديم، خصوصاً في فترة ما قبل ميلاد السيد المسيح، تبيّن لنا وجود حضارات عديدة کانت تتشابه مواقفها من المساواة، ذلك أن الترکيبة الطبقية التي قامت على أساسها المجتمعات القديمة، أعطت تمايزاً لدى الشرائح والطبقات الاجتماعية.

عند النظر إلى أساسيات الديانة اليهودية فإننا نجدها قد ارتکزت على بعض من المفاهيم والتوجهات الدينية، والتي صارت من مرتکزات الاعتقاد في التراث الديني اليهودي، ولعلّ من أبرز هذه المفاهيم: فکرة (العهد)، و(الاختيار) و(أرض الميعاد)، وإن فکرة المواطنة قد أصبحت ذات علاقة وارتباط بهذه المفاهيم الثلاثة.

أما بالنسبة الى المسيحية، فقد عانت الأمرّين من إشکالية الولاء الديني والانتماء الوطني، خصوصاً في روما القديمة فقد اتخذت هذه الإشکالية مسارات مختلفة کان البعض منها دامياً، ولکن في النتيجة ثمة إيماءة واضحة بهذا الصدد کما ينقل إميل أمين في بحثه المعنون “رٶية کنسية لقضايا المواطنة والتعددية”: “ربما يتعذّر علينا الغوص في أعماق المجامع المســكونية الكنســية التي تناولت قضايا مشــابهة، غير أننــا نلفت إلى أحدثها، وربمــا أكثرها علاقة وصلة بالعالم اليوم، ونقصــد بذلك المجمع المســكوني الڤاتيكاني الثاني والــذي نقرأ فيه: يهيب المجمع بالمســيحيين كمواطنين1(1965 – 1962) في المدينة الأرضية والسماوية أن يقوموا بواجباتهم الزمنية بأمانة ونشاط مهتدين بروح الإنجيل”.

في الدين الاسلامي، لم يکن هناك استثناء بهذا الصدد، لکن مع التنويه بأن المشکلة کانت تکمن دائماً في التعارض بين الأصالة والمعاصرة وعدم التناغم والتجانس بينهما بما يتلاءم مع طروحات ومفاهيم النصوص الدينية.

جدلية الولاء للوطن أم للدين تتعلق بعاملي التغيير والتطور

إن الملاحظة التي لا بدّ من التنويه بها ترتكز على كون المسار الإنساني في التاريخ، لا سيّما إذا ما کان محدّداً بإطار ديني، فإنه “أي المسار” يفرض بسبب عامل التغيير والتطور أطراً مختلفة لکلّ مرحلة تاريخية، وإن السنن التاريخية من حيث بدايات نشوء مرحلة جديدة وکذلك أفولها وولادة مرحلة أخرى، تفرض بالضرورة متغيرات على المسار الإنساني شئنا أم أبينا، لکن مع الأخذ في الاعتبار بقاء خط الإطار العام کجامع لهذه الأطر.

عندما ننظر إلى المجتمعات الإسلامية القائمة في ظلّ دولة الخلافة ثم الدولة الأموية فالعباسية ثم العثمانية وصولاً إلى العصر الحديث مثلاً، فإننا نرى أن هناك اختلافات وإن کانت طفيفة نوعاً ما فيما بين الدول التي أشرنا إليها والمبنية على أساس من الدين، لکن الاختلافات هذه قد تعاظمت وبرزت بقوة أکبر في العصر الحديث حيث مفهوم الدولة والمواطنة اختلف عن نظيره في العصور القديمة، خاصة أن التطور والتقدم العلمي الذي انعکست تأثيراته على مختلف مجالات الحياة جعل مهمة إدارة الدولة وتلبية احتياجات الشعوب والأمم أکثر صعوبة وتعقيداً من العصور القديمة.

الاعتقاد بأن الانتماء الوطني يتعارض مع الولاء الديني خلط مقصود

هناك سٶال يجب طرحه هنا هو: هل الدولة تقدمت والدين لم يتقدم؟ بل يجب أن نکون أکثر صراحة ونقول: هل انتفت الحاجة إلى الدين وصارت الدولة بديلاً منه؟ من دون شك إن إجابتنا هي بالنفي عن السٶالين، ذلك أن الإسلام کإطار عام حافظ وجامع لکلّ الأمور والقضايا حقيقة ماثلة ويقرّ بها الجميع، ولکن المشکلة أن هذا الإطار لا يمکن جعله بديلاً عن إدارة الدولة ومهام الحکومة وواجباتها، فلکلّ منهما شأنه الخاص، وأن الاعتقاد بأن ولاء المسلم للدولة والانتماء الوطني يتعارض مع ولائه الديني، إنما هو خلط مقصود ومشبوه، وهدفه إقحام الإطار الديني في مجال هو غير مجاله، کما أراد ويريد ويسعى إلى ذلك الإسلام السياسي، وما تسبب ذلك بمشکلات ومصاعب ومتاعب للشعوب العربية والإسلامية هي في الحقيقة کانت في غنى عنها.

طروحات الإسلام السياسي، وحتى التجارب السياسية التي قامت بها سعت من خلالها إلى تهميش الدولة والحکومة وجعلها محشورة في بوتقة نظريات حزبية ضيقة تسعى إلى جعل نفسها بديلاً عن الإسلام، وکذلك سعي هذه الطروحات النظرية إلى تهميش وإقصاء فقه المواطنة الذي رسم مساراً واضحاً في تعامل المسلم مع دولته من حيث الحقوق والواجبات، وذلك بالاستناد إلى قاعدة المزاحمة، والحقيقة المهمة هنا، هي أن أمور الشعوب والأمم لا تدار عن طريق الأفکار الحزبية الضيقة، وإنما عن طريق الدولة وولاة الأمور الذين يشرفون عليها ويديرونها لما فيه خير وصالح الشعوب والأمم.

شارك المقال